مقالات

“هارمونيا الأنا والذات والآخر في سياق التنوع”

للهارمونيا Harmonia معاني عديدة مثل التجانس، والتوافق، والاندماج، ولكن المعنى الأكثر دقة لها -وهو ما نفضله – هو (التناغم) والذي سنعالجه في ضوء جدلية العلاقة بين الأنا والذات والآخر في سياق التنوع، واعتمادا على هذا المعنى للهارمونيا، فإن تناغم الأنا والآخر له أشكال عديدة تتحقق في الإنسان، وذلك خلال علاقته بذاته أو بالله، أو بالمجتمع أو بالسياقات التي يعيش فيها.. إلخ، وبالتالي يمكننا تقسيم مفهوم الهارمونيا في ضوء الأنا والذات والآخر إلى نوعين هما: “هارمونيا الأنا والذات” و”هارمونيا الأنا والآخر”.

أولا: هارمونيا الأنا والذات

تُعوِّل “هارمونيا الأنا والذات” على تحقيق حالة التناغم والاتفاق الكلي عند الإنسان إما في علاقته بذاته أو في علاقته بالله، فبالنسبة لعلاقة الإنسان بذاته فتتحقق الهارمونيا عندما يتصالح الإنسان مع ذاته أولا، ومحاولة التقرب والاعتراف الصريح لها ومواجهتها، هذا فضلا عن الإعلاء من شأن الضمير والسعي ليقظته،

فعندما يتحقق هذا سوف يصبح فعل الإنسان متفقا مع رغباته، وبالتالي سيكون فعلا إراديا وحرا ويلبي المرجو منه، وسيكون الإنسان في حالة رضى عنه، وفقا لهذا سيكون الفعل نابعا من الإنسان بكل حرية ويتحمل نتائجه والآثار المترتبة عليه، وهو ما يجب أن يتحقق عند كل فعل. وبذلك تتحقق هارمونيا الفعل الإنساني عندما يتناغم كل من: العقل والقلب والإرادة والضمير في موافقتهم على الفعل، وبهذا سيكون الفعل نابعا من الإنسان بكل حرية من ذات الإنسان الجوانية.

أما بالنسبة لعلاقة الإنسان بالله، فهي علاقة ذاتية شخصية من الدرجة الأولى، فهي علاقة وجودية بين العبد وربه، علاقة إيمانية قلبية من ناحية وعلاقة عقلانية منطقية من ناحية أخرى، فلقد أودع الله في كل إنسان قلبا نورانيا تتحقق نورانيته بمدى تنمية طهارته، والتزامه بالتعاليم والأوامر الدينية التي يقرها النص المقدس،

فكلما قويت طهارة القلب زادت نورانيته وأصبح لديه القابلية لتلقي التعاليم والأوامر الدينية، عندئذ ستقوى علاقته الوجدانية بخالقه، فهناك تواصل داخلي بين الله والقلب الإنساني، ويمكن القول -إن جاز لنا التعبير – أن المعرفة القلبية النابعة من القلب النوراني أشبه بالوحي الطبيعي في إرشاد الإنسان عندما يتعرض لكثير من الموافق في حياته، والتي يحتاج أن يأخذ قرارا تجاهها (استفتِ قلبك).

اضغط على الاعلان لو أعجبك

فالنص المقدس وتأويلاته العقلانية والطهارة القلبية هما المرشدان للإنسان في حياته الدنيا، ومتى تحقق إيمان الإنسان بالنص وتأويلاته التي تتطلبها التغيرات المكانية والزمانية في ضوء الطهارة القلبية ستتحقق علاقة هارمونية بين الإنسان وربه، علاقة يسودها العشق والحب وتخلو من البراجماتية النفعية.

ثانيا: هارمونيا الأنا والآخر   

أما النوع الثاني للـهارمونيا فهو “هارمونيا الأنا والآخر”، فبالنسبة لعلاقة الإنسان بالآخر -والآخر هنا هو الآخر الاجتماعي، والآخر الديني، والآخر الفكري.. إلخ – فيجب أن تكون علاقة تناغم وتوافق من أجل تحقيق سلام واقعي وليس سلاما نظريا أكاديميا لا يخرج عن قاعة الدرس أو عن غلاف كتاب ثقافي أو فكري يعالج إحدى قضايا السلام وتقبل الآخر، بل أن الذي نهدف إليه تحقيق سلام واقعي في المعاملات بمختلف أشكالها وألوانها، سلام نستنشقه ونعيشه،

ولكن هناك حقيقة تقرر أن (الاختلاف سُنَّة كونية)، وبالتالي ليس من السهل تحقيق الهارمونيا تحقيقا كاملا، ولكن يمكن الاقتراب منها إذا قبلنا مبدأ –إن جاز التعبير- “الهارمونيا في سياق التنوع”، والتنوع هو التنوع الاجتماعي، والديني، والفكري.. إلخ، فيمكن أن تتحقق الهارمونيا في الاتفاق على المفاهيم المشتركة من ناحية وقبول المسائل الخلافية من ناحية أخرى، فالتعددية دائما ما تجعل الفكر متكاملا نظرا لوجود آراء وأفكار متعددة تكمل كل منها الآخر.

فإذا ما تم تَقبُل الآخر بمنطلقاته الدينية والفكرية والاجتماعية بقدر من الاحترام دون إهانة أو تقليل من قيمة ما يعتقد به إنسان ما، فسوف يساهم هذا في تحقيق التناغم بين أطياف المجتمع، فاحترام الإنسان لما يؤمن به الآخر سيجعل الهارمونيا قابلة للتحقيق بشرط أن لا يطغى ما يؤمن به إنسان ما على ما يؤمن به الآخر، والاحترام يجب أن يقوم بشكل عملي ويتجلى في كافة الممارسات والأنشطة التي يقوم بها الإنسان من اجتماعية وفكرية ودينية.

مفاهيم مغايرة للهارمونيا

وتجدر الإشارة هنا الوقوف على أهم المفاهيم المغايرة للهارمونيا، فنجد مفهومي: “الراديكالية” و”العنف”، فالعلاقة بينهما وبين الهارمونيا هي علاقة عكسية، فكلما قويت وتحققت الهارمونيا كلما ضعفت وتلاشت الراديكالية وكذلك العنف. وكلما ضعفت الهارمونيا سيؤدي هذا إلى تنامي الراديكالية وطغيان العنف في المجتمع.

فتقوم الراديكالية على المنهج الجذري الذي يرفض التعددية والاختلاف، وترتبط في الوقت ذاته بالعنف، وهذا الأخير هو النتيجة التي تحدث بشكل متكرر ومستمر عند تصادم الجذرية مع التعددية، عند تصادم الأصولية مع الحداثة، وهو ما يتعارض بدوره مع الهارمونيا،

فإذا ما تم التأسيس النظري لقواعد احترام الآخر وتقبله بشكل قابل للتطبيق العملي ومتفق مع البنية التكوينية للعقل الثقافي، لسوف تتحقق الهارمونيا بدرجة كبيرة وملحوظة بين الأنا والآخر. عندئذ سيسود الاحترام وتقبل الآخر وسيتحقق سلام اجتماعي وفكري وديني، وهو ما سيؤدي إلى سيادة جو من الهارمونيا في مختلف السياقات التي يحيى فيها الإنسان.

لذا، فالدعوة لتحقيق هارمونيا بين “الأنا والذات” وبين “الأنا والآخر”، لهو فرض عين على كل إنسان يسعى لأن يعيش سلاما ذاتيا أولا وسلاما مجتمعيا وفكريا ودينيا وثقافيا ثانيا مهما اختلفت الأديان والمجتمعات والمذاهب الفكرية. فلا سبيل لتحقيق هارمونيا خارجية دون تغلغلها في جوانية الإنسان الداخلية، فالعلاقة بين الهارمونيا والسلام علاقة طردية، فكلما سادت الهارمونيا في جوانية الإنسان وفي علاقاته الخارجية ساد بالضرورة السلام الداخلي والخارجي على حد سواء، وهو ما سيقود إلى مستقبل إنساني أفضل يسوده السلام واحترام الآخر.

* تنويه: الأفكار المذكورة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع.

اقرأ أيضا:

مذهب الأثرة (المنفعة الفردية – توماس هوبز)

هواجس النفس وسمومها

لماذا لا أرى إلا نفسي؟

د. غلاب عليو حمادة الأبنودي

مدرس اللاهوت والفلسفة في العصور الوسطى ، قسم الفلسفة كلية الآداب جامعة سوهاج