فن وأدب - مقالاتمقالات

نظام التفاهة

بعد ما الحرب الباردة انتهت في التسعينات بين الاتحاد السوفييتي والولايات المتحدة الأمريكية، العالم اتعرف على نظام جديد اسمه العولمة، وهي المعروفة بعملية التفاعل والتكامل بين الأفراد والشركات والحكومات في جميع أنحاء العالم بسبب الترابط الاقتصادي والتجاري بين الدول وخصوصا بعد تسهيل عمليات الاتصال بين شعوب العالم.

العولمة دي عملت على ربط العالم بعضه ببعض كأنه قرية صغيرة، وانصهر البشر في كتلة اجتماعية واحدة ليها نفس الأفكار والعادات والتقاليد، شارع واحد ليه نفس الشكل والسبل التعايشية، وبقا صعب تعرف تفرّق بين الإنسان الأوروبي في النمسا مثلا وبين الإنسان الإفريقي في أحراش الجابون والآسيوي فوق جبال التبت، جميل الكلام؟

ثورة بشرية منبثقة من قلب العولمة

في وسط ما قدرت المؤسسات العالمية في عمل الترابط ده وخلق نوع جديد من البشر، كلهم بيسمعوا نفس المزيكا وبيحبوا نفس الأفلام وبياكلوا نفس الأكل وبيفهموا بعض بلغة واحدة متقبلة كل أنواع واختلافات البشر، وكان العالم بيتحول إلى قطيع من التابعين تديرهم مؤسسات رأسمالية عملاقة، وبقا عادي تاكل همبورجر أمريكي في الصين أو روسيا أو طوكيو،

وبدل ما ده يساعد على إن كل صاحب إبداع أو فكر يوصل لحلمه، حصلت ثورة بشرية عظيمة منبثقة من قلب العولمة غيرت شكل العالم للمرة التانية والأخيرة، على إيد مجموعة من البشر لا تجمعهم أي صلات ترابط إلا حاجة واحدة بس، وهي التفاهة.

في ٢٠١٥م ظهر كتاب في الأسواق العالمية للفيلسوف الكندي “آلان بونو” بيتكلم فيه عن إن التافهين اتحدوا في لحظة معينة مع بعض تحت شكل المؤامرة العالمية، استقلوا فيها بالحكم التام عن جميع دول العالم وكل الأنظمة السياسية، خرج التافهين متحدين عشان يعلنوا عن ثورتهم اللي أعلنوا فيها التحكم في كل حاجة عرفها البشر، العلم والثقافة والتعليم والسياسة،

اضغط على الاعلان لو أعجبك

بيقول إن “التافهين” شكلوا كتلة واحدة من نفسهم كده وحسموا معركة هيمنتهم على “السلطة” حرفيا من غير رصاصة واحدة ودون الحاجة إلى اجتياح الباستيل أو الرايشتاج في ألمانيا، أنضف ثورة بشرية في التاريخ، وبقت تيار شعبوي بيهدد وجود أكبر الديموقراطيات العالمية.

ثورة التافهين دي نجحت في إنها تسيطر على كل حاجة، حولت مفهوم العولمة القائم على الربط الثقافي والفني والاجتماعي في نظام عالمي موحد اللغة والتوجه، إلى نظام جديد اسمه نظام التفاهة، وبقا هو اللي بيحكم ويسعّر كل حاجة، مرحلة تاريخية جديدة غير مسبوقة، تسود فيها سيطرة التافهين على محاور الدولة الحديثة كلها، ولنظام التفاهة ده رموز تافهة ولغة تافهة وشخصيات وأدوات تافهة، كل حاجة بقت تافهة، والتفاهة هي اللي سادت.

نظام التفاهة العالمي الجديد ده بيُقصي أي محاولة للعودة إلى هدف التعليم المعرفي والنهوض بيه، فلا ينتج سوى الكاتب العاطل عن العمل، والمعلّم غير المستقر، والأستاذ الجاهل، وبيتحكم في الذوق العام لكل حاجة عشان تنجح في إنها تعلّي من قيمة التافه، وتقلل من أي حاجة تانية تحت اسم “حرية الاختيار”.

مفهوم نظام التفاهة

“آلان بونو” بيعرّف نظام التفاهة على إنها حالة من السطحية والابتذال والسخافة، ترتكز على أبعاد نفسية وفكرية واجتماعية، التافه المسيطر فيها إنسان عديم القيمة، لكنه تبوأ الصدارة تحت النظام الجديد، وخطف الأضواء وأصبح الفاعل النشيط، الموجه لكل القيم، إلا أنه يجهل أنه هو ذات نفسه تافه.

بمعنى، هو بيشوف نفسه إنسان حر لا أكثر، جوهر كفاءته، تكمن في القدرة على التعرف على شخص تافه آخر زيه، وحسن انتقائه وتدعيمه، فبقى التافهين لبعضهم البعض دعم وسند كبير، في مواجهة أي حاجة ليها قيمة تحاول تطلع من تحت عباءة التافهين، يقاوموها ويحاربوها لحد ما يطفوها للأبد، وتفضل التفاهة هي المسيطرة وهي المادة الأغلى في العالم.

نقدر نعرفه ببساطة على إنه نظام اجتماعي وسياسي يخضع لسلطة تدبير ممثلة بأشخاص تافهين منعدمي الكفاءة من صغار العقول، أو بمعنى أعمق هو نظام يعمل على تمكين التافهين، بيحط الخطط والاستراتيجيات اللي بتخدم السطحية،

شغلته إنه يعمل على تتويج وتشجيع الأشخاص التافهين وتحويلهم لنجوم ورموز للاقتداء، لدرجة تصير التفاهة مطلوبة بالفعل، فيصبحون كما يتصورون أنفسهم مهمين وفي مكانهم الطبيعي، في مجالات حيوية كالمعرفة والفكر والأخلاق والهيمنة والسلطة والاقتصاد والاجتماع.

مش نظام مترابط بالمعنى الحرفي لا، إنما هو زي نظام محدش عمله، من ناس مش عارفين إنهم عملوا النظام ده وبقا هو المسيطر على العالم كله دلوقتي، لدرجة تجبرك إنك تكون تابع ليه، وإنت مش دريان.

أنواع الإنسان التافه في النظام

الكتاب بيقسّم الإنسان التافه في النظام ده لخمس أنواع، كلهم ساعدوا في إشعال الثورة التافهة اللي قضت على كل ما هو مميز وخرّجت كل ما هو تافه للسطح، وهم:

– الرجل اللا مبالي: اللي انسحب من الصورة وقرر يقفل على نفسه.

– الرجل العبيط: اللي بيصدق أي حاجة تتقاله.

– الرجل المتعصب: اللي بيحارب عشان يوصل للسلطة بأي شكل.

– الرجل المرغوم عالتفاهة: اللي موافق عالتفاهة لظروفه الخاصة.

– الرجل التافه الطايش: ودول اللي بيعرفوا بعض وعاملين شبه جماعة تافهة بتوافق على أي شكل من أشكال التفاهة وبتروج ليها، حتى لو هما نفسهم مش عارفين ده أو فاكرين إنهم بيحاربوه بنشر التفاهة بدون قصد.

كل دول ساعدوا في إن نظام التفاهة يكتسح، العالم كله بقى تافه، كل حاجة بقت تافهة، عايز تنجح لازم تكون تافه، تطلع تقول كلام تافه ميهمش المجتمع في حاجة، تغني أغاني تافهة مفيهاش رسالة، مفيهاش كلمات ولا صوت ولا مزيكا، مجرد شوية تفاهة تعجب الناس، تعمل أفلام تافهة ومسلسلات تافهة، تشتغل في كل ما هو تافه،

ومع الوقت التافه ازدادت مكانته في التفاهة وأصبح أسطورة لا يشق له غبار، فكان له جمهور غفير من المعجبين التافهين، وبناء عليه يكون ضيف برنامج مبتذل يشرح بلادته بكل أريحية، وتحت تصفيق الجماهير، أو يكون موضوعا ساخنا للصحافة الرديئة والمأجورة، بتتغنى بالحدث المشهود.

في ظل النظام العالمي الجديد، لو حابب تنجح فمفيش قدامك غير لعبة واحدة، إنك تكون تافه. بمعنى، تكون تافه زيهم، تتكلم بلغتهم، تتحول لترس من تروس التفاهة المسيطرة فيبقى ليك جيش من الجمهور المدافع عنك، يبقالك سلطة تافهة، كلمة مسموعة تافهة، مشهور قدام الملايين، بس لو حاولت إنك تغيّر الأسس المحطوطة في النظام، وتبعد عن القطيع وأفكاره، الناس هتهاجمك، هتقول عليك بتحاول تتفلسف، بتحاول تكون غريب عن المعروف.

لو بتتكلم في حاجة مهمة، محدش هيشوفك، ومحدش هيهتم بيك، وده اللي نجح فيه النظام العالمي الجديد، إنه يخليك تافه، معتز وفخور بتفاهتك قدام الملايين والناس بتشجعك على ده، وكل ما بتزود في التفاهة، كل ما جمهورك هيزيد، كل ما هتتشهر، وهتمسك فلوس ويبقالك كلمة مسموعة، والصحافة تجري وراك.

شكرا.

اقرأ أيضاً:

وجهان لعملة واحدة

لماذا يتقدم الغرب؟

ثقافة التبعية وخلخلة المجتمع

* تنويه: الأفكار المذكورة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع.

*****************

لمتابعة قناة اليوتيوب لأكاديمية بالعقل نبدأ، اضغط هنا

لقراءة المزيد من المقالات، اضغط هنا

محمد أمير

كاتب ومؤرخ وصانع محتوى