مقالات

التخريب

العمارة والتشييد من الأمور الجيدة المحببة إلى النفس، التي يحبها الله تعالى لاستمرار الحياة وطرق سُبل العيش والتعايش في سلام داخلي ومع الآخرين. ومفهوم السلام مفهوم جميل مريح يبعث في النفس التفاؤل والانشراح والسعي للتعمير والبحث والتنقيب عن خيرات الأرض، والعمل الحثيث بكل هِمّة ونشاط على الابتكار والتجديد.

البناء الحقيقي يبدأ بالإنسان والاستثمار فيه وذلك بتثقيفه وتعليمه وتعريفه بحقوقه وواجباته تجاه الكون والمحيطين به، ثم بناء المدن بما فيها من المصانع للعمل والمساكن التي تليق به بصفته آدميًا لاستقراره، والمستشفيات لعلاجه والمدارس لتعليمه، والخدمات لتسهيل حياته.

كذلك البناء يحتاج إلى وقت وإتقان وتجهيز واستعداد، فعلى مستوى الإنسان يتعلم التربية والوسطية في شؤونه كلها، وفن الحياة والبرامج الهادفة التوعوية التي تساعده على التعامل والمعيشة، وعلى مستوى المدن يحتاج إلى مواد بناء وأساسات ورسومات وتخطيط وتنفيذ من الخبراء والمتخصصين والعمال.

ما أسهل الهدم! لأنه لا يحتاج إلى كثير عناء، وأعلى مراتب الهدم هدم الإنسان؛ بداية من تجهيله المتعمّد –غالبًا– وتسفيه رأيه ليكون خاويًا لا ينشغل إلا بالتفاهات والترَّاهات، التي تنبئ بمستقبل أمة فاقدة لوعيها لا تعرف كيفية اغتنام شبابها، وانتهاء بقتله وإنهاء حياته بغير جريرة سوى أنه يعيش في دولة تفتقر إلى أدنى أنواع التعايش أو تقبل الآخر.

قد يكون قَدَر هذا الإنسان أن يعيش في دولة احتلال دموية نازية تحرق الأخضر واليابس والإنسان بالجملة، وبخاصة عندما يمتلك –هذا الإنسان– قلبًا واعيًا وعقلًا مستنيرًا أو حصل على قدر من العلم، وبالتبعية هدم كل ما هو تاريخي وثقافي، ولا يهم في هذا أن تكون هذه المعالم من عشرات أو مئات أو آلاف السنين، المهم طمس الهوية وقتل الحرية.

اضغط على الاعلان لو أعجبك

من آثار التخريب عند قيام الثورات والوقوف في وجه الظلم والعدوان أن يتعمّد الثائرون إتلاف المباني والمنشآت الحيوية الدَّالة على حقبة تاريخية معينة وهدمها، أو ترمز إلى معْلَم من معالم الدولة أو آثار بارزة أو سيارات أو محال تجارية، إنّ هذا يرجع إلى الجهل المطبق وعدم الوعي.

المتابع للحرب المسعورة في فلسطين يرى بكل وضوح إنهاء حياة الأحياء بقتل كل عين تطرف وبخاصة في قطاع غزة، فإسرائيل تتعمّد هدم كل رمز للحياة والفكر والإنسانية، فعدم قدرتها على قتال فصائل المقاومة وجهًا لوجه يجعلها تتقوّى على المدارس والجامعات والمساجد والأماكن الأثرية، ووصلًا بتلك الهجمة الشرسة انتقل الاحتلال البغيض إلى القتال في الجبهة اللبنانية وحشد خمس فِرق كاملة في جبهة وحيدة لقتال حزب! وليس جيشًا نظاميًا له تسليحه وعدّته وعتاده، ومع هذا لم يستطيعوا فتح ثغرة للدخول لضراوة القتال وقوة المقاومة واستبسالها.

هؤلاء القوم كما قال تعالى عنهم في سورة الحشر الآية (2): “يُخربونَ بيوتهم بأيديهم وأيدي المؤمنين فاعتبروا يا أُولي الأبصار”، إنهم اليهود أصحاب العقيدة الفاسدة قتلة الأنبياء، الذين كتب الله عليهم الذِّلَّة والشتات، ومن ثم الشعور بالنبذ والجفاء من سكّان أهل الأرض قاطبة حتى أنفسهم، تراهم في كل زمان ومكان يعلو وجههم الخزي، لا يُحبون الإصلاح ولا المُصلحين ولا يجتمعون في مكان طاهر أو مع أشخاص طاهرين.

ومثل المعتاد مع إخفاق المحتل في المواجهة وفقده للشجاعة في الإقدام، يهتدون بخططهم العسكرية الدموية وأفكارهم الألمعية إلى تهجير السكان المدنيين قسرًا، والإجهاز على القرى والمدن منها التاريخية القديمة، مثل مدينة صور الساحلية المشهورة بتاريخها العريق فهي من المدن الفينيقية، التي انضمت إلى التراث العالمي، وتعمّدت كذلك غارة إسرائيلية شعواء تدمير مبنى المنشية الأثري المحاذي لقلعة بعلبك التاريخية.

هكذا الانتصار في الحروب عند ساسة الكيان: التدمير والهدم المُمنهج نتيجة لحلقة مفقودة وهي ملء عُقد نقص الشخصية، فتحوّل المحتل السّادي النهم لسفك الدماء ورؤية الأشلاء وبخاصة للأطفال والنساء وكبار السن إلى ثور أهوج، الذي أمِن العقوبة فأساء الأدب وانفلت زمامه وحُل وثاقه بأخذ الضوء الأخضر لإطلاق يده؛ يفعل أي شيء في أي وقت.

مقالات ذات صلة:

ماذا بعد نهاية الكيان؟

التكرار الأبدي للغطرسة البشرية

اهتمامٌ ببناءِ البنيانِ وإهمالُ بناء الإنسانِ

* تنويه: الأفكار المذكورة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع.

_________________________________

لمتابعة قناة اليوتيوب لأكاديمية بالعقل نبدأ، اضغط هنا

لقراءة المزيد من المقالات، اضغط هنا

د. وائل زكي الصعيدي

خبير مناهج وطرق تعليم اللغة العربية لغير الناطقين بها/ جامعة الاقتصاد والتجارة الدولية

محاضر في: جامعة الدراسات الأجنبية كلية العلوم الإسلامية الصينية / بكين – الصين

دكتوراه فى المناهج وطرق تدريس اللغة العربية

ماجستير في أدب الأطفال، ودبلوم خاص في المناهج وطرق التدريس، رئيس قسم الموهوبين بإدارة ميت أبو غالب التعليمية دمياط سابقاً

عضو اتحاد كتاب مصر