ما بين العقل والإرادة
الإرادة :
بمعنى المشيئة، أراد الشخص شيء أي شاءه .
أما العقل فعرفه الفارابي :
هو الآلة التي يستطيع من خلالها الإنسان أن يتفكر ويتأمل في البحث عن المعرفة ومن خلالها يستطيع الكشف عن ماهية الأشياء و الكشف أيضا عن خفايا الطبيعة التي تحيط به من ظواهر قد يجدها غريبة في بعض الأحيان وقد لا يجدها كذلك أحيانا كثيرة .
إن تأملنا حقيقة الإرادة؛ لوجدناها أقرب من النسيج العضلي و هو أحد أنسجة الجسم التي حين يتم استخدامه بكثرة؛ يزداد حجمه وقوته فيمتلك القدرة على حمل أوزان أثقل من التي كان في إمكانه حملها في السابق.
وكما أن النسيج العضلي يتأثر بالظروف والعوامل المحيطة به فالإرادة كذلك ،
فنجد أن التحفيز مثلاً يزيد من قوة الإرادة سواء أكان ذاتيًا أو خارجيًا.
ويكون التحفيز الذاتي على أشكال عدة أولها معاودة تذكير النفس بغايتها وكذلك محاسبتها وإعادة تزكيتها.
واستنهاض عاطفة القلب بالشوق والحب لأهدافها وكذلك توجيه الغضب والثوران عليها وقت تقصيرها.
ولا يحدث ذلك التحفيز دون مراقبة للنفس وتقييم مستمر لها لدفعها وإعادة تحفيزها في وقت ضعفها وتقلبات نفس صاحبها.
وأما التحفيز الخارجي؛ فيكون بالمواقف والظروف وكذلك الأشخاص، وهنا لا يهمنا ذكر سوى الأشخاص؛ فالصحبة الصالحة تُعين على تحفيز الإرادة وتجديد طاقات صاحبها.
أما المواقف والظروف؛ فنعاود من خلالهم ذكر القوة العقلية التي كانت عين صاحبها حين رصد ضعف إرادته؛ فسعى في تقويتها وكذلك حين يمر بمواقف صعبة أو ظروف ومعوقات حياتية لا يجعل اليأس يدب في نفسه، والاستسلام الذى راح يتملك إرادته فحينها يعاود التصويب من خلال التفكير السليم والرؤية الواقعية لأفكاره؛ فيرتبها ويحل مشكلاتها ويقف على الحلول وما يجب أن يفعل.
ولكن يا صديقي الفرق في احتراف التعامل مع تلك النفس البشرية كيف يكون؟ وكيف نبلغ الآلية في التعامل مع تقلباتها وهواجسها؟!
من المعروف أننا مميزون بتلك القدرة (الإرادة) وقد تكون أقدس ما حمله الإنسان على الإطلاق؛ فهي تعد صفة من صفات الخالق سبحانه وتعالى
كيف يمكن أن نقويها؟! وما نظرتنا إليها؟!
الإرادة في حقيقتها هي حرية الاختيار؛ حُرية مَنح الخالق صاحبها بعض لوازم اختباره وهى العقل والشهوة والغضب، وبعد أن كوَّن صورته المادية منحه الحياة فكان بصورته الآدمية
عقل يعي وجوده سواء المادي أو المعنوي وشهوة تُبقى على حياته، وغضب يبقيه على استعداد للدفاع عن نفسه وحمايتها وكل ما يملك، وتمنحه الدافعية نحو ما يريد. وبعد كل هذا تطورت حياته ليتقدم حضاريًا، ويتعلم من العلوم ما يجعله ينسى تمامًا حقيقته المعنوية، ولا يبحث في أي شيء عنها. فقط استسلم لبعض القوى من شهوة وغضب وتم بناء رؤيته الواقعية على نمط مادي؛ فأصبحت الإرادة قيد لأى شيء يريده وفق رؤيته واعتقاده فقد يحرز الكثير من الجوائز في مجالات كالرياضة والطب والعلوم والفلك وفى أي مجال ولكن لماذا ؟!
قد يكون ذلك لتحقيقه للنجاح؟! الذى حتمًا تختلف تعريفاته من أحد لآخر؛ فقد يُعد نجاح السيئة، ينتج سلاحاً ما ويهديه لأحد الفاسدين ليقتل به وهنا هذا العالِم قد كان يتحدى الظروف ويستجمع إرادته ويحفزها ليحصل على ما يريد سواء كان تحقيق هدف ما أو نيل ربحٍ وألقابٍ كبيرة في وسطه.
وفى الحقيقة ليس العقل الوحيد المنوط بالاختيار ؛ فقد يكون أحيانًا لدى البعض الغضب أو الشهوة ، وهنا لتحديد وجه الاختلاف بين الإرادة والعقل نوضح دور كل منهما؛ فإن التعقل هو قوة الإنسان على الإدراك لأى معنى وجودي، أما تحركه للاختيار فذلك دور الإرادة ولكن ذلك يحدث بعد انفعال أتى بعد الإدراك
لذلك تكون العملية في أربع خطوات :
أولها :
الإدراك : وهو يشمل انطباع صورة أو معنى في الذهن سواء كانت من الواقع الحسي المدرك بالحواس أو من الواقع المعنوي الذى هو ما وراء تلك الطبيعة.
وثانيها :
الانفعال : وهو ذلك التأثر الذى حدث نتيجة الإدراك وهو قد يكون في صور مختلفة إما عقلي حين يدرك صاحبه أمرًا معنويًا أو ماديًا؛ ساق للمدرك معنى حسن أو قبيح؛ فثار في نفس صاحبه شوقًا وتعلق أو كره و اشمئزاز أو فضول وإما غضبيّ حين أدرك المرء معنى معين؛ فانفعل وفقه بالغضب سواء مضبوطًا بالعقل أو منفلتًا عن طوعه وإما شهويًا حين أثار الإدراك شهوة في نفس المرء سواء مضبوطة بالعقل أو منفلتًا عن طوعه.
وثالثها :
الإرادة : وهى تحرك نفس المرء المريد لتلبية الانفعال سواء أكان عقليًا أو شهويًا أو غضبيًا .
ورابعها :
الفعل ( السلوك ) : وهو الرد الفعلي والسلوكي المدفوع بالإرادة؛ فإن كان الانفعال شهوي نحو الأكل مثلاً بإرادة لتناول هذا الأكل وقع الفعل بالأكل ما إن لم يوقفه عامل خارجي أو داخلي كقوة العقل أو الغضب .
وهنا يبدو أن الإرادة هي الاختيارية سواء الحسنة أو السيئة ، سواء المُنصاعة إلى لذات الشهوة أو المستسلمة لثورة الغضب أو المضبوطة بتوجيهات العقل .
وهنا يظهر أنواع للإرادة :
فقد تكون شهوية، وقد تكون غضبية، وقد تكون عقلية، وهذا يترتب على الصبغة أو السبيكة التي صبغ وصب صاحب النفس (الغضب)
وهنا تصبح لاختياراتنا أهمية كبيرة؛ فبها تغلب الإرادة على الأخرى سواء العقلية أو الشهوية أو الغضبية.
فمثلاً اختيار تغذية الإرادة العقلية بتوجيهنا لأنفسنا للتغذية المعنوية بالمعرفة النافعة التي تزيل مواطن الجهل عند صاحبها وتكشف له أكثر عن واقعه وحقيقته ومساوئ نفسه وحقيقة واقعه وإلهه والتي تسوقه لمعرفة الحسن ليطبع نفسه عليه كالقيم الإنسانية والأخلاق النبيلة والقبح لتهذيب النفس وفقه ومراقبتها الدائمة للتقويم والإصلاح ، تمنح تلك الاختيارات الطبع والصبغة لنفس صاحبها فتغلب الإرادة العقلية .
الإرادة الغالبة على طبع الإنسان هي ما تطوع سائر القوى لخدمتها فمثلاً استسلام الإنسان لشهوته يطوع العقل والغضب لتلبية مطالبها وفق طبيعة كل قوة؛ فالعقلية توجد السبل والغضبية والشهوية تمثل الدافعية
وهنا يظهر لنا أنواع لأصحاب تلك الإرادة :
فأما إن كانت القوى (عقلية ، شهوية ، غضبية) متقاربة :
يكون الصراع بين الثلاث قوى مستمر فيحدث في النفس لوم من القوة العقلية على ما ارتكبته القوى الأخرى فمثلاً السكوت على حق منزوع من الشخص فتعاود القوة العقلية تحديد الخطأ وتأنيب صاحبها فيغضب على ما اقترف ويعاود المطالبة بالحق وإيجاد السبل لاسترداده وما يلبث إلا أن يخطئ صاحب هذا النوع من الإرادة اللهم إلا قليل منهم ويبقى كذلك حتى يرجح إحدى القوى على البقية .
وأما إن كانت القوى الشهوية غالبة :
ويكون صاحب ذلك النوع من الإرادة لا يدرك الحسن إلا في مضمون مادىّ بحت وهو التلذذ فقط وهنا تنسحق القوى الأخرى تحت لواء الشهوة؛ فيجد العقل السبل لتلبية حاجتها ويكون الغضب والشهوة دافعية لصاحبها .
وأما إن كانت القوى الغضبية غالبة :
ويكون هنا صاحب ذلك النوع من الإرادة؛ لا يدرك الصواب أو الخطأ ما إن ثارت نار غضبه تجاه شيء ما فيتحرك العقل تلبية له موجد السبل لتلبية إرادة الغضب .
وأما إن كانت قوتين متقاربتين :
ويحدث في الأمر: يحدث حين تتقارب الثلاث قوى إلا أن تقاربت القوى الغضبية والشهوية على حساب العقلية فيتجه العقل لإيجاد سبل تخدم أي إرادة منهما ولا يحدث فيها لوم عقلي فتلك القوى تكون منسحقة غير مدركة للصواب .
وأما إن كانت القوة العقلية غالبة :
وهنا يحدد العقل الحسن والقبح والنفع والضرر والصواب والخطأ ويدرك حقيقة واقعه فيوجه كل من القوى الأخرى لخدمة غايته وفق طبيعة كل منها دون الإخلال بما يسعى له من رقىّ معنوي وارتقاء إنساني ، فيقف لهما بالمرصاد حارسًا ومرشدًا وموجهًا لهما؛ يعاود تقويم ما يبدو فيه نقص وقصور ويضع كل منها في موضعه لإبقاء حياة صاحبه أو حفظ حقه أو الرقي به بالتخلص من عيوبه وإكسابه ما هو حسن .
وهنا يظهر جليًا أن القوى تنسجم وتتناغم في عملها وذلك حسب الإرادة الغالبة على طبع الشخص.
وهذا الترتيب وإن بدا ساذج لأنه يحدث لكل منا دون أي مجهود أو قد لا يلتفت أحد أصلاً لآليته وكونه طبيعي لدينا.
إلا أنه هو أصل كل أفعال البشر التي ينتج عنها تغيير واقعهم سواء إن كان تغييرًا نافعًا أو فاسدًا
وقد يوضح مثالنا ذلك خطورة هذا الأمر :
إن المجرم الذى ينتهك حقوق الآخرين ويسرقها لديه إشكالية معرفية تجعله يعتقد أن هذا ما يجلب النفع له وفى الحقيقة قد يبدو ذلك صحيح ظاهريًا؛ فهو ينتفع ماديًا ولكن ماذا عن حقيقته المعنوية هل تنتفع كذلك ؟!
فهو اعتقد أن النفع مجرد امتلاك المال أو كثرة امتلاك الأمور المادية، وهذا أمرُ مغلوط؛ فالأشياء المادية مجرد وسائل والدليل على ذلك أنه يسعى للمال لنيل شيء آخر قد يكون سيارة أو منزلاً أو مكانة أو منصبًا أو غيرهم وهنا يظهر أنه ليس غاية في ذاته وحين نفند ما أراده سنجد أنها كذلك وسائل؛ فالسيارة يريدها إما للتظاهر والتفاخر أو لوسيلة مواصلات أو غيرها وكذلك كلما فندنا فمكانته ومنصبه ومنزله؛ إنما جميعها وسيلة إلى شيء واحد حتمًا وإن كان في الظاهر الراحة وحب الامتلاك والتلذذ فكلها كذلك وسائل لديه لينال السعادة. ذلك الشعور المعنوي الذى هو المراد في النهاية ولكن كل تلك الأمور التي استهلكها واللذة والراحة وصولاً للسعادة التي شعر بها هل امتلكها للأبد ؟! حتماً لا؛ إذ زوالها يعنى أنها غير حقيقية وإنما كانت كسراب الصحراء الذى يظنه العطشان ماءً رغم أنه في الحقيقة ليس كذلك فحين يبلغه يتحقق بأن لا وجود له إنما كان مجرد تَوهّم.
وهو ما يحدث بالمثل لدى الإنسان المتعطش بفطرته إلى السعادة التي يتوهم وجودها في أي شيء يحدث له شعور مؤقت بها ، و يحدث لذلك النوع من الناس توهم للسعادة التي سريعًا ما تزول .
وهنا يبدو جليًا خطؤه المعرفي ألا وهو اعتقاده بأن الشعور المعنوي بالسعادة؛ إنما سبيله هو الاستهلاك المادي والانغماس في تلك المتع ، وحين لا يدرك ذلك يقوم بدائرة إجرامه وفق رؤيته الخاطئة للسعادة ولمبادئه السيئة فيفسد في نفسه وفى مجتمعه .
ولكن إن كان شخص ما صاحب معرفة سليمة لحقيقته على وجهها المادي والمعنوي وعلى دراية بمعرفة ماهيته وحقيقة وجوده وخالقه وغاية خلقه وغيرها ،فنجد أنه يعي أن الصدق حسن ويأتي موقف ما فيتصرف وفق معرفته يريد فيدفع قواه لتلبية مراده وإخراج الفعل السليم الموافق للمعرفة وفق توجيه العقل للقوى الأخرى.
فيصبغ طبعه بالإرادة العقلية الملائكية فإنه يعقل وجوب قضاء حوائج الجسد والنفس؛ حتى يتمكن من تكملة رحلته كالذي يسافر بسيارة ويعاود مِلء خزانها بالوقود حتى يتمكن من الاستمرار في رحلته للوصول متغلبًا على معوقات طريقه وساعيًا لما هو أرقى؛ فتسمو روحه بمعاني قدسية ومبادئ وقيم أخلاقية فتراه معطاء دون كلل ومسامحًا دون حقد وعادلاً دون ظلم ومصلحًا دون مقابل كنهر يدب الحياة في أي صحراء جرداء حين يسير فيها ليجعلها جنة .
أيا ساعي في الدرب ترجو نجاة اختر من بين جنبيك ففيها هلاكك ونجاتك.