لم أجد السعادة إلا في عيون البسطاء .. ما علاقة البساطة بالسعادة؟ وكيف نسعد؟
المرأة صاحبة البساطة
نادتني وأنا أمشي في السوق “البيض البلدي عندي زي العسل”، وضمت أناملها الرقيقة إلى شفتيها لتقبلها قبلة مليئة بالثقة لتثبت لي أن بضاعتها هي الأفضل! تبسمت وأشرت إليها بأني لا أريد البيض ولكني سألتها عن الجبن القريش، فتأسفتْ لأنه ليس لديها. لا تحزنها حياتها الرتيبة التي تعيشها ولا الملابس البسيطة التي ترتديها ولا الوظيفة المتعبة التي تعملها. لم يبقَ لديها إلا الأمل في “البيعة” الحلوة التي تؤمن لها لقمة العيش، ولذلك فهي تبتسم، لأنها تأمل أن ترقق تلك الابتسامة لها قلب زبون أو زبونة ليشتروا من بضاعتها المزجاة التي ربما تفسد إن لم تستطع بيعها كلها اليوم.
سمعت أذان العصر فأسرعت بلم بضاعتها في “الطشت” الألومونيوم وغطتها بقماشة “القفة” ثم وقفت وحملت حمولتها بعد أن وزنتها بدقة فوق رأسها لتتجه مسرعة نحو القطار الذي سيعيدها للنصف الآخر من يومها وحياتها. ينتظرها في المنزل زوج مرهق عاد من يوم عمل شاق كبناء في مشروع إسكاني جديد في أحد المجمعات السكنية الراقية، كم يتألم هذا الرجل وهو يعرف أنه يؤسس ويبني لمنازل وقصور وشقق وفيلات راقية لن يسمح له ولا لأولاده أن يدخلوها إلا كالعبيد والخدم، بينما المنعمون وأصحاب الأظافر المقلمة المطلية هم من يستمتعون بلذات هذه الحياة ورفاهيتها. ولكنه يعود في آخر اليوم ليجد زوجته “وتد البيت” قد عادت هي الأخرى لمنزلهم البسيط الذي يحتويهما مع أطفالهما الثلاثة.
حلم الأسرة ومسيرة الأجيال
تحاول هذه الأسرة أن تصنع من أطفالها الحلم الذي يتمناه كل إنسان في حياته؛ فالأب والأم يعتقدان بأن نجاح أطفالهما هو تعويض كبير لهما عن المعاناة والشقاء والتعاسة التي واجهاها في حياتهما، توصي الأم الأبناء بالمذاكرة والاجتهاد في المدرسة، فهي تحلم بالابن الكبير الحامل للشهادة العليا صاحب الوظيفة المحترمة والزوجة السعيدة والأسرة المستقرة التي ربما لم تنجح هي في أن تنالها في حياتها. وهكذا ينتقل أمل الانتصار كالحمل الثقيل من على أكتاف الآباء المستضعفين للأبناء التائهين. ولدوا في هذه المتاهة لا يعرفون ما الغاية وما الهدف وراء هذا الصراع الدموي المرير! كل ما وجدوه هو الصراع فقط دون أي مبرر أو عقلانية.
نستطيع تصور مجتمعنا كالجيش الذي خرج يبحث عن أحد المدن البعيدة جدا عن وطنه ليحتلها، وطالت بهم المسيرة وزادت عليهم المشقة ومرت الأيام والشهور والسنين، لعل الجيل الأول الذي أصبح هرما الآن يتذكر لماذا كان هذا المسير ولماذا كان هذا الصراع؟ لكن جيل الشباب الذي ولد في ميدان المعركة والمسيرات الطويلة المستمرة لا يتذكر ولا يعرف أي شيء عن هذه المعركة أو حيثياتها؛ إنه اختيار الآباء والأجداد الذي أقحم فيه الأبناء والأحفاد دون اختيار أو تفضيل أو تفكير.
يكبر الأبناء ويموت الشيوخ وتشيخ الكهول، يضيع الجمال وتبقى الأحلام والآمال ولكن دون جدوى… يثور أحد الأبناء صارخا من الألم والجوع والعطش “من نحن؟ ولماذا نفعل ما نفعله بلا طائل؟” فيعنفه البقية بقسوة لأنه فكر في أن ينتقد قرارات الأجداد الحكماء أصحاب الطرابيش وربطات العنق المزركشة. تدور رحى الطغيان على هؤلاء الأبرياء فتحولهم للتعساء الأشقياء كما صورهم فكتور هوجو في البؤساء.
من البساطة ..
عاش أحد الفقراء في منزله البسيط المؤجر في منزل بلا مصعد، كان يسكن الطابق السادس من المنزل في الشتاء كانت تنسدل قطرات المياه من بين شقوق السقف، وفي الصيف كان لهيب الشمس يزيد من حرارة الغرفة ورطوبتها لدرجات لا تحتمل، كان زجاج النافذة مكسورا فتعود أن يعلق أحد أغطية النوم على النافذة لتقيه شر البرد في الشتاء، والحشرات في الصيف. لم يمتلك أحد الغسالات الفاخرة ذات البرامج الأوتوماتيكية، كان لديه غسالة يدوية عادية تغسل ثم تشطف ثم تعصر وعليه أن ينظم وقته لكي يستطيع أن يغسل ملابسه كل أسبوع.
لم يمتلك مكواة لكي يفرد بها ملابسه، فتعود أن يعلق ملابسه فورا على الشماعات لكي تجف بعد الغسيل بدلا من أن يحتاج للكي كل يوم. لم يمتلك العربة الفاخرة وكان يسكن بعيدا عن الشوارع الرئيسية، فتعود أن يصحو مبكرا ويمشي للمواصلات لكي لا يتأخر على العمل. لم يكن يجرؤ على أن يترك طعاما كثيرا في المنزل لكي لا تقوم الفئران بزيارة منزله أثناء غيابه وتلتهم كل ما تبقى وتحول منزله لمستعمرة فئران جديدة.
.. إلى التعقيد
مرت الأيام وانصلح الحال وتعدلت الأمور، جرت النقود في يده، وتسارعت وتيرة الحياة مع النقود بشكل عجيب، فتيسرت أموره بعد عسر دام سنين، فأجر شقة في مكان جديد أفضل بكثير من منزله القديم، وأصبح يركب سيارات الأجرة المخصوصة “التاكسي” للتنقل في المدينة. لم يعد منزله يعرف تلك الكلمات مثل البرد أو الحر أو الحشرات أو الفئران. أصبح يخزن طعام الأسبوع ثم طعام الشهر، بدأ بكي ملابسه ثم أصبح يرسل ملابسه للـ”مكوجي” لكي يوفر الوقت. المهم أن حاله تبدل بالكلية.
وفي يوم وهو يمشي في الشارع رأى انعكاسه في المرآة، فلم تعجبه الصورة التي رآها؛ في السابق كان من أصحاب القروش، لكنه اليوم أصبح من أصحاب الكروش؛ فها هي معدته الممتلئة تتأرجح أمامه بعد أن أصبح يتفنن في ملئها بما لذ وطاب ليعوض أيام الحرمان، والرياضة الإجبارية التي كان يقوم بها يوميا حرم منها عندما أصبحت أغلب تنقلاته بالسيارة. لم يعد يصحو مبكرا لكي يلحق المواصلات فأصاب جسده الخمول والكسل. كان على موعد مع الطبيب بالأمس فحذره من ارتفاع الضغط واضطراب معدلات السكر والكولسترول في جسده، فأصبح يصرف الكثير من المال على الأدوية والعقاقير. أين ذهبت البساطة ؟
نظر إلى حياته المختزلة في صورته المنعكسة في هذه المرآة فلم يجد نفسه سعيدا. بل ربما كان أسعد بكثير أيام الفقر و البساطة ، لكنه اليوم يتمنى الصحة والنشاط وراحة البال التي كان يشعر بها في الماضي.
طغيان النفس واختفاء البساطة
نحاول في حياتنا كثيرا أن نمزج بين الأفضل دائما. فنأخذ من السكر حلاوته ومن اللبن دسامته ومن الفاكهة عطرها وطعمها اللذيذ لنصنع منه عود البوظة. ولكننا لا نحصل إلا على القليل في النهاية، فنصيبُنا من الكالسيوم والطاقة والفيتامينات يتضاءل أمام القدر الذي كنا نحصل عليه لو تناولنا نفس هذه المكونات ولكن بشكل أكثر فائدة وأقل حلاوة.
نبرر لأنفسنا الاختيارات الخاطئة التي نقع فيها مرة بعد الأخرى بحجة الضرورة أو الحاجة الماسة، لكننا ننسى أنها الشهوة والضعف فهما السبب الحقيقي وراء هذه الأخطاء. نغفر لأنفسنا ونسامحها على الضعف، ونتناسى تقوية النفس وتدريبها على الخشونة والتحمل والجلد، لكن الزمن لا ينسى ولا يغفر بهذه السهولة و البساطة لمن يتناسى ضرورة العمل ومعاندة النفس في شهواتها. تمر الأيام وتخور القوى وتذهب الملامح الجميلة، تضيع مساحيق التجاميل داخل الشقوق وتغيب عند أفق الترهلات والخلايا الدهنية، وتذوب في جداول العرق والدموع التي تجري حسرة على الأمس، لكننا لا نتعلم على الرغم من كل هذا كيف نثور؟ ولماذا نثور؟
قالوا أن الطواغيت في عالم الإنس والجن، لكنهم نسوا أن يذكرونا أن الطاغوت الأكبر يسكن صدورنا. أعطونا ونحن صغارا الترياقات والمضادات الحيوية والتطعيمات ضد سموم الأفاعي والفيروسات والميكروبات، لكنهم نسوا أن يعطونا العقاقير والتطعيمات ضد أشد السموم والأمراض فتكا بنا وهي أمراض النفس.
هل حان الوقت ؟
فهل حان الوقت أن ندرك بعد كل هذه الدروس أن المرض يكون في النفس أولا وليس في الجسد؟ فأجسادنا المريضة ما هي إلا ضحية لنفوسنا التي مرضت وسحرت بسحر هذا الوجود المخادع الذي لا يشبع من التهمه، ولا يروي عطش من شربه.
تفاخرت الحضارات والممالك في بناء القصور وباحات الترفيه والمرح والسعادة، لكنهم لم يجدوها في النهاية، فلو خرجوا لنا اليوم من صناديقهم الخشبية أو الحجرية أو حتى المرمرية المذهبة، وسألناهم عن منتهى اللذة والسعادة في الدنيا، فإننا لا يجب أن نتعجب إذا قال لنا أحدهم “لم أجد السعادة إلا في عيون البسطاء”!
اقرأ أيضاً .. لماذا نتحاور
اقرأ أيضاً .. الخوف من الموز، ماذا يعني هذا ؟
اقرأ أيضاً .. معوقات التنمية فى دول العالم التالت