لماذا نكتب؟
تحليل نفسي برؤية أدبية
أبحث عنه في لهفة، وفي شوق ألقاه، بعشق ألمس أطرافه، أحتضن قده المتناسق بين وسطاي وسبابتي وإبهامي، أرفعه تارة وأخفضه أخرى، أسكب رحيقه الصافي على الأوراق، أحاول أن أصنع من مداد قلمي فكرة، ويالها من فكرة!
تتدلل علي تارة وتدللني أخرى، أغريها حينا وتغريني أحيانا، تهم بي وأهم بها، فتقسو وتلين، وتتمنع وتجيب، وتظهر وتحتجب، وأنا في كل مسجون مقدود قميصي من قبل وهي وقلمي علي من الشاهدين.
وأظل على حالي متسائلا: لمن نكتب ولماذا؟ أفتش عن الإجابة في دفاتر نفسي فلا أحصل عليها، وأظل في نواحيها صوالا جوالا أحاول الظفر منها برد مقنع مشبع فلا تردني إلا خائبا وقد ضنت علي حتى بخفي حنين، وأعود فاسأل: لماذا نكتب؟
التفسير الأول: الفكرة
وأعثر على الإجابة أخيرا، أو أظنني كذلك، إننا لا نكتب الفكرة وإنما الفكرة هي من تكتبنا والفكرة هي من تكتب نفسها، هذا ما يرويه (توفيق الحكيم) في أقصوصته (ميلاد فكرة):
– ما هذا الذي يهز جدران رأسي؟
– فكرة
– وماذا تريدين؟
– الخروج
– الآن؟ في جوف هذا الليل؟ والناس نيام؟ والنعاس يغلق مني هذه الأجفان؟
– نعم الآن، إذا لم أخرج الآن فلن أخرج أبدا
– ألا ترين أني أتثائب وأني لا أكاد أتماسك، أولا تستطيعين انتظارا حتى الصباح؟
– لا أستطيع انتظارا، الآن يجب أن أخرج.
– و لماذا اخترتي لي هذا الوقت الذي أغرق فيه نوما
– لست أنا التي تختار، لقد تكونت في رأسك كما يتكون الجنين في بطن أمه، ونضجت للنزول.
التفسير الثاني: التخلص من الهموم
ربما تكون هذه إجابة مقنعة، ولكن مهلا، أليس ما يقوله (طه حسين) في مقدمة كتابه (الأيام) أكثر إقناعا؟: “إنما أمليته لأتخلص بإملائه من بعض الهموم الثقال والخواطر المحزنة التي كثيرا ما تعتري الناس بين حين وحين، وللناس مذاهبهم المختلفة في التخفف من الهموم والتخلص من الأحزان، فمنهم من يتسلى عنها بالقراءة، ومنهم من يتسلى عنها بالرياضة، ومنهم من يتسلى عنها بالاستماع للموسيقى والغناء، ومنهم من يذهب غير هذه المذاهب كلها لينسى نفسه ويفر من حياته الحاضرة وما تثقله به من الأعباء”.
لعل هذا ما يفسر تلك الراحة الغريبة التي نشعر بها بعدما نستفرغ كل ما يلج في أنفسنا ويعتلج فيها من خواطر وهموم.
التفسير الثالث: القوة
القوة، نعم القوة، هي أيضا تفسير مقبول لحالة الكتابة، ألم يقل (فرانسيس بيكون): “إن المعرفة قوة”، أوليست الفكرة نتاج المعرفة وتعبير عنها؟ ألا يقول (عبدالقادر المازني) لمن يشتري كتابه (حصاد الهشيم): “أقسم أنك تشتري عصارة عقلي وإن كان فجا، وثمرة اطلاعي وهو واسع، ومجهود أعصابي وهي سقيمة بأبخس الأثمان”.
ألم يقل (عباس محمود العقاد) إن الفكرة تمنحه القوة والشعور بالعظمة: “ولم أشعر قط بتعظيم إنسان لأنه صاحب مال، ولم أشعر قط بصغري إلى جانب كبير من كبراء الجاه والثراء، بل شعرت كثيرا بصغرهم ولو كانوا من أصحاب الفتوحات!
وأنا أعتقد أن نابليون مهرج إلى جانب العالم باستور، والإسكندر المقدوني بهلوان إلى جانب أرشميدس، وأن البطل الذي يخوض الحرب ذودا عن الحق والعقيدة أكرم جدا من كل بطل يقتحم الحروب ليقال أنه دوخ الأمم وفتح البلدان”.
الفكرة ما هي إلا رصاصة
ألا كل ما سبق كاف للإجابة عن سؤالي لماذا نكتب؟ ولكن مهلا يا صديقي، فهذا صديق آخر يذكرني بأن الفكرة ما هي إلا رصاصة محارب تطلق على الباطل فتدمغه حينا وتقتله أحيانا أخرى، ألم يقل (الشاعر أحمد مطر):
جس الطبيب خافقي وقال لي:
هل هنا الألم ؟؟
قلت له: نعم
فشق بالمشرط جيب معطفي وأخرج القلم!
هز الطبيب رأسه.. ومال وابتسم
وقال لي: ليس سوى قلم
فقلت: لا يا سيدي
هذا يد.. وفم
ورصاصة.. ودم
وتهمة سافرة.. تمشي بلا قدم!
إذا ستبقى الكلمة، وسنبقى نكتبها مادمنا نشعر، وسنبقى نكتبها ما دمنا نفكر، وسنبقى نكتبها ما دمنا نقرأ ونتعلم، وسنبقى نكتبها ما دمنا ننشد الإصلاح.