مقالاتعلم نفس وأخلاق - مقالات

لماذا لا أرى إلا نفسي؟ – العلاقة بين الفكر ورؤية النفس

عندما يحدث خلل في الفكر يصدر سلوك غير سوي

“فدع كل صوت غير صوتي فإنني أنا الطائر المحكي والآخر صدى”

البيتان السابقان هما من أبيات الشاعر العربي “المتنبي” وهو شاعر قد فاق أقرانه في البيان والبلاغة الشعرية وبلغ به المدى أن أصابه غرور الأنا كما هو واضح من البيتين، فأحببت أن أبدأ هذا المقال بشعر “المتنبي” لما له من سحر وبيان.

في أثناء تجوالي بإحدى الحدائق؛ وجدت تنوع جميل في الأزهار فتلك وردة لونها أحمر والأخرى لونها أصفر وتلك أحمر، تنوع جميل في الألوان؛ تنوع يسحر عينيك بالجمال الطبيعي في ربوع تلك الحديقة الجميلة، فوجدتني أسأل نفسي ماذا لو كانت الزهور كلها واحد؟! لونها واحد؟! رائحتها واحدة؟!

من الأكيد أن هذا سيبعث النفس على الملل و الجمود، فالتنوع سمة الكون الشاسع فهناك ليل ونهار وهناك تغير باستمرار؛ فتلك سمة لازمة لكوننا، حيث أن الجمود معناه الفناء.

الجمود الفكري

من البيتين السابقين، ومن المقدمة السابقة، نستطيع أن نقول أن من يمتلك الحقيقة المطلقة ويظن نفسه هو صاحب الرأي الأوحد؛ لهو جامد فكريا مختل عقليًا، ففي ظنه أن .كل رأي خلاف رأيه هو صدى لا أصل له ولا أساس له فكل الآراء، وكل فكر آخر ليس بالصحيح . رأيه فقط هو الصحيح وآراء الآخرون خطأ، من هنا يأتي الجمود

اضغط على الاعلان لو أعجبك

ومن هنا يأتي الجهل الذي يفضي بصاحبه إلى لفظ الآخر ونبذه، وقد يتطور الأمر إلى حد الإرهاب الذي هو استخدام القوة في تحقيق هدف غير مشروع. فالإرهابي هو شخص عنده قناعة تامة بأن فكره هو الفكر الصحيح وهو من يمتلك الحقيقة المطلقة والآخرون يجب إجبارهم على تبني هذا الفكر ولا سبيل لديه سوى نظرة أحادية هي استخدام القوة للترويع والتخويف.

ولتلك النظرة اللاعقلانية التي تنتشر للأسف في أوطاننا عدة أسباب منها(لعدم الاستطراد والإطالة)؛

1- التربية التي نستمدها من محيط الأسرة؛ فالبيت هو أول معلم لنا؛ ففيه نعرف كيف نتكلم وكيف نتعرف على العالم من حولنا، ومن الأخطاء المنتشرة أن نمنع الطفل من التساؤل عن ماهية الأشياء؛ فالطفل في تلك المرحلة يكثر من الأسئلة وعلينا أن نجاوبه بما هو على مستوى عمره ولا ننهره، فهنا نولّد لديه الكبت والخوف مما يؤثر بالسلب عليه.

2- المدرسة وهي البيت الثاني لنا في تلك المرحلة العمرية؛ فلها تأثير كبير علينا وعلى تشكل وعينا، فالمتأمل في المناهج التعليمية؛ يجد أنها لا تنمي ملكة الفكر والنقد بل الحفظ هو المفتاح لبلوغ كليات القمة فلا تفكير ولا إبداع.
المطلوب فقط الحفظ والترديد لا مجال للنقاش فتربينا على عدم النقاش وعلى عدم الحوار، فكم منا ناقش معلمه في شيء!
أو تعلم كيف يفكر تفكير ناقد من أسلوب تعليمه!؟

كيف نخرج من معضلة الأنا؟

للأسف لا توجد مادة واحدة للتفكير ، كيف نفكر؟! وكيف نعرف الكثير من المغالطات المنطقية وكيف نعرف الصحيح من الخطأ في الحوارات التي نسمعها ليل نهار؟! وللخروج من تلك المعضلة علينا أن ننفتح على كافة الآراء؛ فالتنوع في الآراء طالما لا يوجد دليل قطعى ثبوتي هو تنوع محمود يُثري الفكر ويعمل على الانفتاح على الآخر.

فليس شرطًا أن أوافق على هذا الفكر أو ذاك ؛ بل مقصودنا هو التقبل والانفتاح على مختلف الآراء؛ فطالما -كما قلنا- لا يوجد دليل قطعي فالرأي فيه سعة ومتسع وهنا تأتي المناقشات بالحجة والمنطق وبالحوار الهاديء الذي لا يسوده الشحناء والتباغض و الجمود ولا يسوده الأنا ورأيي هو الصحيح ورأي غيري الخطأ.

فهذا ليس بحوار بل معركة -أنا- داخل بها لأنتصر فقط لنفسي ولفكري ولا هم لدي إلا الانتصار لرأي دون إتاحة فرصة للآخر من أن يقول فكره ونناقشه بالحجة والمنطق، وهذا للأسف ما نشاهده في برامج التوك شو التي لا هم ولا هدف لمقدمي تلك البرامج التي يسمونها حوارية سوى أن يأتوا بطرفين كليهما يُسمي نفسه أنه من النخبة وهو أبعد ما يكون عن النخب الثقافية؛

فتجد الأصوات عالية، وتجد التسفيه والسخرية ويقف مقدم البرنامج على إشعال المبارزة أكثر فأكثر حتى يحظي برنامجه على أعلى نسب مشاهدة ومن ثم أعلى إعلانات وأعلى دخل للقناة وله، فتخرج من هذا السجال بتشويش في عقلك واكتساب ألفاظ وفكر خارج قائم على أن الأعلى صوتا هو الأكثر قوة.

من هو المثقف الحقيقي؟

فالمثقف الحقيقي هو صاحب الفكر المنفتح على الثقافات الأخرى والذي يطلع على الأفكار الأخرى المتنوعة؛ فيأخذ منها ما يوافق الحق ويدع ما لا يتوافق مع الحق و هو الأمر الذي لا يعتريه شك؛ فالتنوع أمر محمود وهو سنة الكون وعلينا أن نتسلح بالمعرفة وأن نطلع على شتى العلوم حتى نتعرف على العالم من حولنا وحتى تتسع أفقنا ونشحذ فكرنا.

وعلينا قبول الآخر والاطلاع على كافة الأفكار والقبول بالتنوع في الفكر وكما قال الإمام الشافعي رحمه الله” رأيي خطأ يحتمل الصواب، ورأي غيري صواب يحتمل الخطأ”. فالجمود الفكري هو تبلد وجهل بحقيقة الأشياء؛ فالعقل وُجِدَ للتدبر والتفكر فكل يوم هناك جديد؛ معلومات جديدة، اكتشاف جديد.فلا للجمود ولا للتشبث برأي قد يحتمل الصواب وقد يحتمل الخطأ.

محمد سليم

عضو بفريق مشروعنا بالعقل نبدأ بالإسكندرية