غربلة العمر كيف يكشف الزمن معادن البشر؟

تمر بنا السنوات، ويحصد الزمن من رفاقنا ما يحصد من الزهور، بعضهم يسقط بهدوء من حياتنا، وبعضهم نكتشف أنه لم يكن يومًا متجذرًا في قلوبنا. ومع النضج ندرك أن السعادة الحقيقية ليست في كثرة الوجوه حولنا، بل في صدق القلوب التي تبقى. هذا ما تؤكده أبحاث علم النفس الاجتماعي التي بيّنت أن الدعم الاجتماعي الحقيقي يقلل من مستويات التوتر والاكتئاب ويعزز الصحة النفسية، في حين أن العلاقات السطحية لا تترك أثرًا إيجابيًا يذكر (Gao et al., 2024).
في بداية المشوار، قد ننشغل بالعدد ونظن أن الامتلاء بالعلاقات يمنحنا قيمة إضافية، لكن المواقف وحدها تكشف المعادن الأصيلة للبشر. فقد أوضحت دراسة تحليلية موسعة أن جودة العلاقات الاجتماعية لها تأثير مباشر على طول العمر والصحة العامة، أكثر من كثرتها أو اتساعها فقط (Holt-Lunstad et al., 2010)، والزمن هنا ليس محض إطار للأحداث، بل أداة طبيعية للفرز، يختبر عبره الإنسان صدق المحبة وصلابة الروابط.
ومن منظور علم النفس التربوي، يظهر نمط التعلق الذي نشأ منذ الطفولة كيف أن الأفراد يختلفون في سلوكهم الاجتماعي، فالأشخاص ذوو التعلق الآمن يكونون أكثر قدرة على بناء علاقات مستقرة وذات مغزى، مقارنةً بمن لديهم تعلق قلق أو تجنبي (Mikulincer & Shaver, 2016). وهذا يفسر لماذا لا يحتفظ الإنسان مع مرور العمر إلا بمن يمنحونه شعورًا بالأمان، ويجعلونه قادرًا على أن يكون على طبيعته دون تصنع أو تبرير.
أما في ميدان الصحة النفسية، فقد أكدت أبحاث متعددة أن العلاقات الصادقة تعد عامل حماية ضد الاكتئاب والقلق، بل وتسهم في تعزيز الرفاهية النفسية عبر آليات مثل إدراك الدعم وتقليل الضغط النفسي (Kim & Kim, 2022). وهكذا يصبح التمسك بالعلاقات التي تبعث على الطمأنينة نوعًا من الرعاية الذاتية، تمامًا كما هو الاهتمام بالصحة الجسدية أو العقلية.
في النهاية ليست خسارة أن ينسحب بعضهم من حياتنا، بل ربما هي نعمة غير مرئية. فالغربلة التي يغربلها العمر ليست قسوة، بل حكمة، فالمكسب الحقيقي أن يظل في الدائرة من يشبهك في القيم، ويمنحك سلامًا داخليًا، ويذكرك دائمًا أنك في المكان الصحيح. وعلى ذلك فالسعادة إذًا ليست في العدد، بل في النوعية والجوهر، والصدق الذي لا يتغير بتغير الظروف.
مقالات ذات صلة:
* تنويه: الأفكار المذكورة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع.
_________________________________
لمتابعة قناة اليوتيوب لأكاديمية بالعقل نبدأ، اضغط هنا
لقراءة المزيد من المقالات، اضغط هنا