فن وأدب - مقالاتمقالات

نظام التفاهة .. كتاب أثار جدلًا كبيرًا

“إن التافهين قد حسموا المعركة لصالحهم هذه الأيام، لقد انقضى زمن الحق والقيم، لأن التافهين أمسكوا بكل شيء، بكل تفاهتهم وفسادهم، فعند غياب القيم والمبادئ الراقية يطفو الفساد المبرمج ذوقًا وأخلاقًا وقيمًا.

إنه زمن الصعاليك الهابط، وكلما تعمق الإنسان في الإسفاف والابتذال والهبوط ازداد جماهيرية وشهرة”.

إن مواقع التواصل نجحت في ترميز التافهين، إذ صار بإمكان أي جميلة بلهاء، أو وسيم فارغ أن يفرضوا أنفسهم على المشاهدين، عبر عدة منصات أغلبها منصات هلامية وغير منتجة، لا تخرج لنا بأي منتج قيمي صالح لتحدي الزمان!

ما جوهر كفاءة الشخص التافه؟ إنه القدرة على التعرّف على شخصٍ تافهٍ آخر! معًا يدعم التافهون بعضهم، فيرفع كلٌ منهم الآخر، لتقع السلطة بيد جماعةٍ تكبر باستمرار، لأن الطيور على أشكالها تقع، ما يهم هنا لا يتعلق بتجنّب الغباء، وإنما بالحرص على إحاطته بسور السّلطة.

هكذا يتكلم الكاتب الكندي آلان دونو في كتابه الشهير: “نظام التفاهة”، شارحًا فكرة كتابه “نظام التفاهة” أو (La médiocratie)، الذي صدر بالفرنسية عام 2015 وكان عمر دونو وقتها 45 سنة، فأحدث الكتاب جدلًا كبيرًا منح مؤلفه شهرة عالمية ولم يكن معروفًا قبله.

اضغط على الاعلان لو أعجبك

آلان دونو في نظام التفاهة يؤكد أننا نعيش فترة سيئة من التاريخ البشري، يحرم فيها من السلطة كل قادر على القيادة الرشيدة بحكم ثقافته ومهارته وأمانته، بينما وقعت السلطة بالكامل في يد التافهين باختلاف درجاتهم ومستوياتهم ممن لا يتمتعون بهذه الصفات.

المشكلة الأكبر أن نظام التفاهة لم يتوقف عند السلطة السياسية، بل طغى على جميع المجالات، وصارت التفاهة نظامًا رائجًا، فالإعلام يهتم بالتفاهات ويقدمها عن طريق تافهين، حتى المجالات الإبداعية مثل الأدب والفنون أُبعِد عنها المبدعون الحقيقيون لصالح التافهين، إنه عالم جديد يقتل الإبداع ويدفن الموهبة، إنه احتلال التافهين للعقل وللروح وللذوق في نظام يشرعن التفاهة والتخلف.

في تعريفه للمقصود بالتفاهة يقول آلان دونو: “التفاهة هي الشر في شكل الوعي والعقل الذي يتكيف مع العالم كما هو، الذي يطيع مبدأ القصور الذاتي”، “لأنه كما نعلم جميعًا من الأسهل القيام بأشياء تافهة على القيام بأشياء مهمة مثل التفكير، كما أنه من الأسهل أيضًا القيام بأشياء صغيرة نعلم أنه يمكننا القيام بها بدلًا من البدء في أشياء كبيرة لسنا متأكدين من النجاح في تحقيقها”.

ويقول: “إذا لم نواجه هجوم التفاهة الخبيثة في بيئتنا اليومية، وإذا فقدنا السيطرة تدريجيًا على التلوث السائد من اللا مبالاة وعدم الاحترام، فنحن بحاجة إلى إعادة هيكلة تفكيرنا بشكل لا رجعة فيه وتعديل آلية عملنا.

إن أخذ كل شيء كأمر مسلم به وقبول أي شيء واعتباره غير قابل للنقاش قد يولد الانفصال، ويثير حسرة شديدة، وأخيرًا يحول حياتنا إلى بلاء”، فلسان حال التافه يقول: “حتى لو سقط العالم، سوف ينقذني هاتفي المحمول”.

ويرى آلان دونو أن من ملامح التفاهة مثلًا تحول التعصب السياسي والأيدولوجي إلى نمط التعصب الكروي، وأن أموال العالم تنفق في التفاهات بدلًا من إنفاقها على الأشياء المهمة، مثل التنافس على الاستهلاك وشراء السلع الترفيهية والكمالية بمبالغ ضخمة وانعدام الإقبال على السلعة الثقافية أو الاهتمام بالصحة والتعليم والإنتاج، وإذا حاولت تصحيح ذلك فإن منظومة التفاهة تقاومك وتحاربك وتقصيك.

جميعنا سبق له أن رأى برنامجًا تلفزيونيًّا يستضيف مغنية أو راقصة ليسألها حول قضايا مجتمعية لا يحق لغير المتخصصين التحدث فيها، لمجرد أنها جميلة أو لأنها نجمة، أو يستضيف ممثلًا يسأله عن التطورات السياسية للقضية الفلانية، أو حتى في مسألة تتعلق بعلوم الفضاء لمجرد كونه وسيمًا وذا عضلات مفتولة، وذلك لأن هذا النوع من الشخصيات يكون له متابعون ومعجبون بالآلاف وربما بالملايين، يتوقون لمعرفة تفاصيل حياته وآرائه في كل شيء.

المسألة هنا تجارية ليس إلا وترتبط بالإقبال على المشاهدة أو حصيلة الإعلانات، ويصبح المحتوى الذي يُسوَّق للناس خاضعًا لما يحبون سماعه لا بما يجب عليهم أن يسمعوه، وهذه جريمة تواطأ فيها الكل وخضع فيها للمصلحة المالية على حساب الناتج الحقيقي، بدءًا من المؤسسات الحكومية التي تملك سلطة إيقاف هذه المهزلة، مرورًا بالمنصات الإعلامية اللاهثة خلف الأرباح، وانتهاءً بالمتابعين الذين يصرفون أموالهم ويضيعون أوقاتهم وأعمارهم في هذا المستنقع.

حتى رجال الأعمال وأصحاب المصالح السياسية اقتحموا الإنتاج الفني، لكي يفرضوا سياساتهم ومصالحهم وأفكارهم على المجتمع، في عملية غسيل مخ لا تجد من يقاومها.

نستطيع أن نقول إن آلان دونو حلل النظام الرأسمالي في هذا الكتاب، وتناول محاور أساسية من قلب ممارساته، وذلك بهدف حصر آثاره على المجتمع، وهو يرى أننا نعيش مرحلة تاريخية يبسط فيها التافهون نفوذهم على المجالات كافة، وأن سر نجاح هذا النظام في قدرته الكبيرة على إيهام الأفراد بأنهم أحرار فيما يفعلون، بينما هم في الحقيقة يقادون كالقطيع.

يقول: “أعتقد أنه يمكن تدنيس العقل بشكل دائم عبر عادة الاهتمام بأشياء تافهة”.

يعتبر هذا الكتاب من كتب النقد الذاتي إن صح التعبير، فلا بد من مراجعة الذات لأن هذا من ضرورات الحياة، ومن الطبيعي أن يصيب الانحراف والفساد أي نظام في هذا العالم، والنظام الرأسمالي عليه مسؤولية أكبر في معالجة هذا الفساد، وذلك لأن النظام الرأسمالي –من وجهة نظر المؤلف– أثبت قدرته على التطور والارتقاء بالمجتمع في مجالات الحياة كافة.

إلا أن المقصود بالتفاهة والتافهين عند دونو ليس المعنى المتعارف عليه عند الناس، حول الحمقى على يوتيوب ومواقع التواصل والمحتوى الهابط الذي يقدمونه بهدف تحصيل أكبر قدر من المشاهدات والأرباح، فالتفاهة بهذا المفهوم مجرد عرض للمرض الخطير الأشد عمقًا وأهمية، وهي أن عالم اليوم مصمم بطريقة لا تسمح إلا لأنصاف المواهب والقدرات الذهنية بالترقي في سلم السلطة والثروة والشهرة، فالتفاهة هو الاسم الذي يشير إلى ما هو متوسط، لأن هذا النوع هو الذي يستطيع اتباع القواعد والالتزام الحرفي بالتعليمات دون سؤال، ما دام سينتفع.

يقول الكاتب إنه حتى العلم صار في خدمة رأس المال وفي مصلحة الأثرياء من رجال الأعمال، فالجامعات برمجت تخصصاتها على خدمة سوق العمل لا خدمة الإبداع والتقدم الفكري والحضاري، ففي مصانع السيارات مثلًا يحتاجون إلى التخصص، فكل عامل يتخصص في صناعة جزء واحد في السيارة، والجامعات صارت تخرج المتخصص الجزئي لخدمة المصانع وليس الخريج صاحب النظرة الشاملة القادرة على التطوير والإبداع والاختراع، وهذا من ملامح نظام التفاهة.

يرى الكاتب أن من أهم مظاهر نظام التفاهة كذلك نقص الإحساس بأهمية الوقت، يقول: ” في المستقبل القريب، أولئك الذين فهموا قيمة الوقت سيحكمون أولئك الذين قللوا من أهمية الوقت”، “أعلم أن كثيرًا من الضغط يقع على عاتقنا جميعًا لإضاعة الوقت والتقليل من شأنه، هناك كثير من الضغط علينا لمحاولة التغلب على الملل بقضاء الوقت في الحماقات”.

“أنت تقلل من أهمية الوقت عندما لا تعرف ماذا تفعل به”.

“لا تقلل من شأن حقيقة أن حياتك آخذة في التقلص وأن العمر ينتهي”.

“مسؤوليتي تجاهك وتجاه أي شخص آخر يرغب في العظمة أن أنصحك قائلًا: لا ينبغي عليك التقليل من أهمية الوقت”.

“لن تعيش حياتك بشكل صحيح حتى تعرف ماذا تفعل بوقتك. إذا لم يكن لديك أي نتائج لإظهارها طوال الوقت الذي تمر فيه، فلا بد أنك كنت تقلل من أهمية الوقت ويجب أن تعيش حياتك بلا مبالاة”.

ويضيف: “لكن الشعور بالإحباط أمام إمكانية إصلاح هذا النظام أو على الأقل عدم الذوبان فيه والتطبع بقيمه لن تكون إلا في صالح هذا النظام نفسه، لأنه يعمل بكامل طاقته وكل أدواته الإعلامية على صناعة إنسان يقول: ما الذي أستطيع عمله أنا الشيء الصغير النكرة؟”.

“إن طريق الخروج يبدأ من امتلاك وعي كامل وقوي بخطورة هذا النظام، ثم العمل على بناء تفكير مستقل متمرد على الأفكار السائدة التي تخدمه. دع عنك الإحباط”، “وتوقف عن السخط وانتقل إلى السؤال التالي: ما الحل؟ التقِ مع آخرين في تجمعات بخلاف تلك الطائفية والشللية، اسخر من الأيديولوجيات، اختزل المصطلحات التي تريد الآلة الإعلامية ترويجها للتأثير فينا، وحوّلها إلى موضوعات مجردة للتفكير، تجاوز أساليب السيطرة التي تمارسها المنظمات وحاول خلق البديل”.

عيب هذا الكتاب أنه كتب بأسلوب صعب الفهم على الناس العادية كأنه موجه فقط للمتخصصين، فلغته العلمية معقدة وألفاظه معظمها مصطلحات غير دارجة، وقد بذلنا جهدًا كبيرًا لنجنب قارئ المقال ذلك، ومع ذلك نجح الكتاب وانتشر انتشارًا كبيرًا، وهذا دليل على أهميته الكبرى التي جعلت الناس تتخطى عقبة صعوبة اللغة وتتجاوز عنها وذلك لما فيه من قيمة وفائدة.

“نظام التفاهة” في الواقع “كتاب شديد الأهمية”.

اقرأ أيضاً: 

التعصب والتسامح في مرآة الممارسات التطبيقية

الشائعات الإلكترونية وآثارها السلبية

الانحراف السلوكي عن القيم الأخلاقية

* تنويه: الأفكار المذكورة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع.

_________________________________

لمتابعة قناة اليوتيوب لأكاديمية بالعقل نبدأ، اضغط هنا

لقراءة المزيد من المقالات، اضغط هنا

أ . شامخ الشندويلى

الشاعر والكاتب والسيناريست المعروف