أيام طه حسين

عندما قرأت الأيام ما كنت أستطيع التوقف عند فصل إلا وسرعان ما أشرع في قراءة الفصل الذي يليه، فالكتاب مملوء بالخبرات المتراكبة المتراكمة والأحداث المتعاقبة، التي تتضافر في تقديم خلاصة تجربة “طه حسين” الإنسانية في أوضح مراميها وأتم سعيها، فقد نضج فكره وشعوره وعركته الحياة في دروبها المتباينة، ما دعاه إلى الحرص على تقديم ما وصل إليه من قناعات ورؤى إلى الآخرين، أمانًا لهم كي لا يقعوا في مزالق الحياة التي تعاورته، فجاءت حياته إضاءات تتراءى بها تجاربه ونبراسًا يستفيد به المتلقون، كما أن الحديث عن حرمانه الذي عاناه في حياته وتحدث عنه في أيامه سُلْوَة يقدمها لأصحاب الحرمان، فتطيب به نفوسهم وتسمو به أرواحهم، ومن هذا التسلي كان فن السيرة الذاتية من أكثر فنون الأدب مراعاة للبعد الوظيفي إلى جانب البعد الفني.
لقد توافرت مقومات فن رواية السيرة الذاتية في أيام “طه حسين” بما يجعلها من أوائل الأعمال الرائدة التي تؤسس لهذا الفن في الأدب العربي الحديث، وسوف أتناول الآن بعض هذه المقومات بما يتناسب مع مقامي هذا، وذلك مثل:
الافتتاحية الحكائية للفصول
فقد دأب “طه حسين” في فصول أيامه على افتتاحها بمستهل حكائي مثل قوله: “لا يذكر لهذا اليوم اسمًا، ولا يستطيع أن يَضعه حيث وضعه الله من الشهر والسنة” أو قوله: “منذ هذا اليوم أصبح صبيُّنا شيخًا”، أو استهلاله لكثير من فصوله بقوله: “كان…”، ولفظ “كان” لفظ سحري في أخذ المتلقي إلى عالم القص والحكي، وهذه الافتتاحية الحكائية لها أبلغ الأثر ومنتهاه في البلوغ بالمتلقي إلى أقصى درجات التشويق، وإثارة مواطن الفضول بداخله لاستشراف ما سوف يقال ويحكى، بما يؤسس لهذا الكتاب مكانته في فن رواية السيرة الذاتية.
البنية الزمانية والمكانية
أما عن البنية الزمانية والمكانية في الأيام فيجب أن نعلم أن ثمة فرقًا بين السيرة الذاتية ورواية السيرة الذاتية وهو الترتيب الزمني، ففي كل عمل قصصي يوجد زمانان متكاملان: زمن القصة، وزمن الخطاب، فزمن القصة مرتبط بالترتيب المنطقي للأحداث، أما زمن الخطاب فمرتبط باختيار المبدع وبؤرة الحدث، والكاتب في الفن الأول يلتزم الترتيب الزمني غالبًا، أما في الفن الثاني فهو ليس مطالبًا بذلك الترتيب وله مطلق الحرية في الانطلاق في حكيه من أية بؤرة يريد التركيز عليها، وقد وجدنا هذا التقيد في السيرة الذاتية قديمًا قبل الاستعانة بتقنيات الفن الحكائي الحديث، أما الآن فتقنيات الحكي تتيح للكاتب أن يغاير هذا المنهج، وقد التزم “طه حسين” الترتيب الزمني في تتابع أيامه إلا أننا نجده يطرق باب تقنية الاستباق الزمني في الفصل العشرين الذي ختم به الجزء الأول من سيرته، وذلك عندما أراد أن يوازن بين حياته وحياة ابنته “أمينة” في مرحلة الصبا، ثم عاد إلى مقتضى الترتيب الزمني مرة أخرى واستهل الفصل الأول من الجزء الثاني بحياته في الأزهر، وهذا الاستباق ينمي عملية التشويق لدى المتلقين، إذ يقطع الحدث في مرحلة معينة ليسلط الضوء على مشهد محدد ثم يعود لاستكمال الحدث مرة أخرى، والكاتب حين يفعل ذلك إنما يراعي الحركة النفسية عنده، فزمن الخطاب غير مرتبط بالترتيب المنطقي للأحداث، وإنما يرتبط بما يريد الكاتب أن يوصله للمتلقي، ولذا جاء هذا الاستباق عند “طه حسين” ليسلط الضوء على المفارقة بين حياته وحياة ابنته في سن معينة.
الخيال في كتاب الأيام
أما عن الخيال في أيام طه حسين فيجب علينا أن نعلم أن رواية السيرة الذاتية قالب ذو طابع خاص ظاهره يقدم التدوين التاريخي وباطنه يعكس روح الأدب والفن، وهذه صورة عميقة تستوجب كاتبًا يعي كيف يوائم بين التاريخ والفن، فإذا كان الكاتب حرًا حين يكتب رواية في استخدام إمكانيات خياله كافة، فهو عند كتابة السيرة الذاتية محدد بنوع من واقعية الأحداث لا يستطيع الفكاك عنها، وينحصر دور الخيال في جمع هذه المادة وتشكيلها.
لكن رواية السيرة الذاتية –بوصفها فنًا أدبيًا– لا يمكن أن تخلو من الخيال وإن كان ما يكتبه صاحبها حقائق ذاتية عاشها في حياته، إلا أنه يستطيع أن يصوغ مادته على نحو ينشط معها الخيال والتصوير، ويمزج بين الحقيقة والخيال مزجًا يجعل القارئ في حالة إثارة وتشويق دائمًا، ولكاتب رواية السيرة أن يطلق لخياله العنان، شريطة أن يكون ذلك في طريقة ربطه لمواده بعضها ببعض، ولا يفسر ذلك أن الكاتب محظور عليه أن يتخيل، لا فالصدق الخالص أمر يلحق بالمستحيل، والحقيقة الذاتية صدق نسبي، فالحديث هنا عن النهي عن اختلاق الأحداث الرئيسة المؤثرة في توجيه حياته، أما الأحداث المساعدة فلا ضير أن يعمل خياله في إعادة تشكيلها وفق ما يتراءى له، وبهذا نجد أن الخيال عنصر فاعل في بناء السير الذاتية، بل عنصر واجب لأن الكاتب وهو يستدعي مادته من الذاكرة قد يكون قد مضى على تلك الأحداث أزمان وأزمان، وأصبحت طي النسيان، وهنا يأتي دور الخيال ليساعده على استعادة الأحداث ونسجها والتئامها، وهذا هو دور الخيال عند كتابة رواية السيرة الذاتية التي تنتقي الأحداث ترتبها ترتيبًا فنيًا، وقد وظّف “طه حسين” الخيال في البناء الفني لروايته الأيام، ووصف مشاهد هذه الأيام وترتيبها في نفسه وواقعه، واستعادة ما مر من الأحداث دون أن يغفل شيئًا مما يؤثر في تتابعها التتابع الذي يقبله المتلقي، كما وظف الخيال في وصف الأشخاص والأماكن التي عاش فيها في القرية والقاهرة وباريس، فلئن كان “طه” لا يبصر إلا أننا نراه يقدم وصفًا دقيقًا للأشخاص والشوارع والميادين والمنازل معتمدًا قليلًا على حواسه وكثيرًا على خياله.
الدافع
أما عن الدافع في رواية الأيام فقد كشفت بنيتها السردية أن لها دافعين، ذاتيًا وموضوعيًا كانا سببًا في ظهورها، إذ إنها كشفت عن جوانب من حياة “طه حسين”، وبخاصة أيامُه في الأزهر وأيامه في باريس، فأراد “طه” تجلية هذه التجربة أمام القراء، إذ تقدم هذه الرواية خبرات متراكمة تتيح للمتلقين الانتفاع بها في طريق حياتهم، وهذا جانب ميّز السيرة الذاتية العربية عند كثير من كتابها الأقدمين منهم والمحدثين، من أنها موطن العبرة والإفادة، كما أن الأيام دلت على أن شخصية “طه” كانت ذات روح إيجابية تبث الأمل والتفاؤل في شتى جوانب الحياة، وأنها ذات إصرار وعزم جعلاه يقف في وجه الشدائد ويجاهد ما وسعته المجاهدة حتى يبلغ مراده، ولعل موقفه من الجامعة المصرية والقائمين عليها خير شاهد على روحه الدائبة، التي ما لانت وأبت إلا أن تأخذ مكانها في البعثة المصرية، فكانت هذه التجربة آنئذ خير دافع لطه كي يدونها مبينًا ظل هذه التجربة على نفسه وسلوكه.
البوح واستبطان الذات
أما عن البوح واستبطان الذات فإن السيرة الذاتية بوصفها نشاطًا لغويًا تحتوي على ما باح به الكاتب وفي الوقت ذاته تضمر المسكوت عنه، فلا تخلو النصوص الأدبية من خبايا يستشفها المتلقي المثالي من وراء الألفاظ، ويستطيع أن يقف عن طريقها على ما تضمره نفس الكاتب، وآنئذ ينطلق إلى التحليل والدرس ليجلي ما خفي واستتر، والسيرة الذاتية في هذا من أكثر النصوص الإبداعية التي تستدعي المسكوت عنه، فهي تقوم على التذكر والذات تتذكر وتنسى سهوًا وعمدًا، لكن تبقى مصداقية الكاتب فيما يقدمه إلى القارئ من أحداث حياته دون إخفاء متعمد، وإن وجد ما يعيبه أو يريد إخفاءه فيمكنه استخدام أساليب اللغة في تقديم ذلك على نحو غير مباشر يتعرف عليها من يجيد هذه الأساليب، وذلك حتى يضمن المصداقية لسيرته الذاتية، وقد كان “طه حسين” –فيما أرى– أمينًا في تسطيره أحداث حياته، دون مبالغة أو إجحاف في وصف الشخصيات والوقائع التي مرت به، وكذلك أرى أن ذاته كانت ذاتًا قوية وبدا ذلك في حديثه عن نفسه دون أن يقحم إعاقته في حديثه فيتحدث عن نفسه بأنه يقرأ ويذهب ويأتي، وبخاصة فصوله الأخيرة التي تحكي الجزء الذي قضاه في باريس، وأن طه حسين استطاع أن يستبطن نفسه ويضع أيدينا على مفارق حياته وتشعبها.
اقرأ أيضاً:
“ضيف على الحياة”.. سيرة محمود خضر ورحلاته
* تنويه: الأفكار المذكورة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع.
_________________________________
لمتابعة قناة اليوتيوب لأكاديمية بالعقل نبدأ، اضغط هنا
لقراءة المزيد من المقالات، اضغط هنا