إصداراتمقالات

قوانين

بالعقل أو بالتجربة أو حتى بالنص؛ يمكن للإنسان أن يلاحظ النظام المحكم ( قوانين ) في الكون من حوله، وطالما حاول دائما وأبدا أن يفهم هذا النظام لكي تتعاظم منه استفادته منعكسة عليه بالمنفعة، وهو نظام  ملاحظ في الجمادات كما في الأجساد، وفي الساكنات كما الحيات، بل وحتى في النفس.

القوانين

ويكمن فهم النظام والاستفادة منه في معرفة ما يسمى بالقوانين، فهي: “القواعد التي تتصرف بموجبها الأشياء، وتحدد العلاقة بينها”، والنظام ما هو إلا مجموعة من هذه القواعد، وهذه القوانين هي عموميات تتحكم وتتصرف وتظهر في شكل خصوصيات.

ويمكن التعبير عن القانون بعبارة تحمل في طياتها شرطا بفعله وجوابه.

مثال

اضغط على الاعلان لو أعجبك

بالتجربة والحواس لاحظ الإنسان النظام الموجود في الطبيعة واستنبط منه قوانين شتى، فمن ظاهرة سقوط التفاحة (خصوصية) استنبط قانون الجاذبية (عمومية تظهر على شكل خصوصيات شتى)، ويمكن التعبير عنه بالشرط التالي: ” إذا وجد جسمين في الكون (فعل الشرط)؛ تحدث بينهما جاذبية تتناسب طرديا مع حاصل ضرب كتلتيهما وعكسيا مع مربع المسافة بينهما (جواب الشرط).”

هل توجد قوانين تحكم البشر والمجتمعات؟

ليس المقصود هنا القوانين التي يضعها البشر، بل المقصود بالسؤال: هل توجد قوانين طبيعية – بمعنى ليست وضعية أو اجتماعية – تحكم حيوات البشر والمجتمعات والأمم والدول؟

تدل التجربة البشرية الطويلة على ذلك، والاستقراء والاستنباط من التاريخ يؤكده، فالعدل مثلا يمكن ملاحظة آثاره كقانون طبيعي على مر العصور؛ “أينما وجد العدل انصلح حال البشر، وأينما غاب تسفلت أحوالهم وطباعهم”، إذاً فالعدل قاعدة يتصرف على أساسها البشر وتحكم العلاقة بينهم ويمكن صياغتها في جملة الشرط، وهي كلية تتجسد في جزئيات.

كيف نصل لهذه القوانين؟

لكن الأهم في مثل هذه القوانين أن إدراكها لا يقتصر على التجربة، بل إن التجربة عاجزة عن إدراكها كلها حتى وإن أدركت بعضها، فهذه القواعد الحاكمة (وسنسميها هنا المبادئ) وسيلة الوصول الأساسية إليها هي العقل بالقياس، بيد أن النص يلعب هنا أيضا دورا هاما، فالنص ممتلئ عن آخره بها، وما القيمة الحقيقية للنص أصلا إذا لم يقم باطلاع الإنسان على القوانين الأساسية الحاكمة لحياته؟ وقد جاء النص لتقوم هذه الحياة ويقوم المجتمع والإنسان على أكمل وجه، وللنص أيضا دور هام في إسقاط بعضها على خصوصيات بعينها؛ كتوضيح كيف يكون العدل في الميراث وخلافه.

هل هذه القوانين حتمية كقوانين الطبيعيات؟

هل رأيت جمادا ما قرر يوما عدم الانصياع لقانون الجاذبية؟ لكن الإنسان كثيرا ما قرر عدم الانصياع للعدل، فهل هذه القوانين حتمية؟

ميز الله الإنسان بحرية الاختيار، وبالعقل والعلم، لكنه وضع له القوانين كغيره سارية لا تتبدل، حتمية لا شك فيها.

فالإنسان يعلم بقانون الجاذبية؛ لكن له حرية الاختيار في أن يحترمه أو لا يحترمه، لكن هذا لن يغير من القانون شيئا، فبإمكانك عدم الاهتمام بقانون الجاذبية والقفز من فوق جبل، لكن النتيجة لن تتغير لمجرد أنك غير مقتنع بالقانون، وستسقط مهشما عنقك خاضعا لقانون الله في الأرض.

وبالمثل يمكنك بعد أن علمت قيمة العدل أن تتنكر له، لكن القانون الطبيعي سيسري عليك وستتحقق العواقب بغض النظر عن رأيك في القانون.

والعواقب موجودة في جواب شرط القانون، فقانون القصاص (إذا قام القصاص قامت الحياة) من الآية الكريمة “ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب” يكمن في جواب شرطه عاقبة ترك القصاص (وهي غياب الحياة) وهكذا. بكلمات أخرى؛ لا يمكننا اختراق القانون أو هزيمته، لكن يمكن أن نختار أن ننهزم أمامه أو أن ننتصر به.

كيف يمكن تطبيق المبادئ؟

المبادئ هي كليات عقلية ونظرية يلزم لتطبيقها صياغات خاصة تصلح للجزئيات، فالعدل مبدأ عند تطبيقه في العلاقة بين الزوجين يتطلب تفصيلات خاصة تراعيه، وهذه التفصيلات قد ينص عليها النص أو يتركها للعقل دون تعارض بينهما، ويصيغها الإنسان في حالة المجتمع في هيئة قانون – اجتماعي أو وضعي – وفي حالة الفرد كسلوك فردي.

فالتسلسل الخاص بالمجتمع مثلا: هو المبادئ (الكليات المطلقة والقوانين الطبيعية) فالدستور (وهو صياغة للمبادئ خاصة بنظام الدولة، أو تفسير لها يخص مجمل شئون الدولة) فالقوانين (تتعامل مع الخصوصيات) وقد يلي ذلك اللوائح ( الأكثر خصوصية).

وتسلسل الفرد: العلم بالمبادئ، فتحويلها إلى قيم شخصية (ما يهمني وله قيمة عندي)، ثم إلى سلوك بشري.

أين يتم تطبيق المبادئ؟

يتحقق قانون الجاذبية على كل جسم في كل مكان وكل زمان، وبالمثل فإن المبادئ عالمية وكونية، فالعدل بعواقبه ونتائجه يتحقق في الأسرة كما في الشركة، وفي الدولة كما بين الدول.

هل تتعارض المبادئ؟ هل للمبادئ استثناءات؟

هل الكذب يجوز عقلا أو نصا؟ لكن ذلك له استثناءات مثل إصلاح ذات البين، فهل يعني ذلك استثناءا للمبدأ؟

تظهر الاستثناءات في المبادئ في بعض الخصوصيات التي يتحكم فيها قانونان أو مبدآن، فهو في الواقع ليس استثناءا ولكن تلاقي مبدأين، ولكن هل يعني ذلك تعارض المبادئ؟

بيد أن هذا يعني ترتيب المبادئ أكثر مما يعني تعارضها، فهناك مبادئ تقدم على مبادئ أخرى عندما يلتقيان في خصوصية واحدة، ففي المثال السابق ظهرت أولوية لمبدأ الإصلاح بين الناس على مبدأ الصدق، وفي القصاص يتقدم العدل على حرمة الدم، وهكذا.

جدير بالذكر أن هذا الترتيب يوجد أيضا في قوانين الطبيعيات، فقانون الرفع يتغلب على قانون الجاذبية ممكنا الإنسان من الطيران وهكذا.

بيد أن أولوية بعض المبادئ على بعض يصل بنا لما يعرف بالمبادئ الكبرى، وهي مبادئ تضم تحت رايتها مبادئ أخرى كما لها أولوية واضحة، منها العدل الذي يضم تحت لوائه القصاص مثلا.

المبدأ والأسلوب أو المبدأ والتقنية

هب أن بائعا حسن الأسلوب، يستخدم أفضل تقنيات التسويق؛ باع لك سلعة فاسدة… ما شعورك عندما تكتشف أنه تم خداعك؟ وأن الأسلوب الجذاب أدى بك للهلاك و الوقوع في الفخ عندما كان المحتوى فاسدا؟ ما مدى استفادتك أصلا من هذه السلعة وهي في ذاتها فاسدة؟

هب أن بائعا آخر لا يجيد لحن القول، لكن لديه أجود البضائع واشتريت منه؟ ما مدى استفادتك؟ وهل حقا يشكل الأسلوب في هذه الحالة أهمية؟ أي البائعين ستقصد المرة القادمة؟ وبالتالي أيضا أي البائعين سيستفيد على المدى الطويل؟

التقنية أو الأسلوب بدون المبدأ لا قيمة له، وقد يؤدي لنتائج سريعة خادعة، لكن فشله مضمون ما دام المبدأ غائبا.

أما المبدأ بلا تقنية أو أسلوب فقد يتعثر قليلا أو كثيرا لكنه قادر على صناعة أسلوبه الخاص به في النهاية وتحقيق أفضل النتائج.

براجماتية المبادئ

من المثال السابق؛ يظهر جليا قدر المنفعة الحقيقية التي تحققها المبادئ، بل في الواقع إن المبادئ أكثر براجماتية ونفعية من البراجماتيين أنفسهم!

لقراءة المزيد من المقالات يرجى زيارة هذا الرابط.

ندعوكم لزيارة قناة أكاديمية بالعقل نبدأ على اليوتيوب.

أحمد عزت

د. أحمد عزت

طبيب بشري

كاتب حر

له عدة مقالات في الصحف

باحث في مجال الفلسفة ومباني الفكر بمركز بالعقل نبدأ للدراسات والأبحاث

صدر له كتاب: فك التشابك بين العقل والنص الديني “نظرة في منهج ابن رشد”

حاصل على دورة في الفلسفة من جامعة إدنبرة البريطانية

حاصل على دورة في الفلسفة القديمة جامعة بنسفاليا