مقالات

فريضة “حب الوطن”

كنت جالسًا على المقهى حين جاءني الأستاذ “جمال سيد”، المدرس وأخصائي مكتبة مدرسة “آمون الخاصة للغات” بالزمالك، وقال بصوت خفيض: “معي قصيدة شعر من تأليفي، ألقتها تلميذة بالصف السادس الابتدائي في مدرستنا اسمها بسمة أحمد لطفي، وفازت بالمركز الأول على مستوى محافظة القاهرة في إلقاء الشعر، في مسابقة نظمتها وزارة التربية والتعليم، إذ أبهرت الحاضرين بحضورها وإحساسها الذي يسبق عمرها، وعبرت عن حبها وانتمائها إلى مصر الغالية بمنتهى الصدق”. هززت رأسي منصتًا إليه، وقلت له: “سأنشرها في عمودي تحية لك ولتلميذتك”.

كلمات في حب الوطن

في اليوم التالي جاءني بالقصيدة، وها هي:

“لن تسقط أبدًا يا وطني رغم الأحزان/ رغم الأحقاد/ رغم الأوغاد/ وستبقى أميرًا للأوطان/ وستبقى دومًا يا علمي/ تختال على أعلى القمم/ تزهو بثلاثة ألوان/ لون أسمر كالنيل/ كطمي الغيطان/ لون أحمر رمز الثورة عالطغيان/ لون أبيض قلب ينبض في الوجدان/ لن تسقط أبدًا يا وطني رغم الأحزان/ لن تركع يومًا يا وطني إلا في صلاة/ لن تخضع في ظل المحن إلا لله/ بالعزة تحيا قنديلًا في كل زمان، لن تسقط أبدًا يا وطني رغم الأحزان/ مصر تناديكم أحبابي/ مدوا أيديكم وخذوني/ ما أصعب أن ألقى عذابي/ من كبدي من نور عيوني/ مصر أتنفس من عشقك/ وغرامك يسكن أوردتي/ نبضات القلب هي نبضك/ وحروفك تغزل أنسجتي/ شريانك يسقي شرياني/ لن تسقط أبدًا يا وطني رغم الأحزان”.

حب الوطن شعور فطري

حب الوطنقرأت القصيدة واستعدت ذكريات تملأ رأسي أحيانًا، عن صفوفنا المنتظمة وهاماتنا المرفوعة ونحن نطلق في فراغ الهواء البارد دفء نشيد “بلادي.. بلادي” في طابور الصباح، في حين يقف ناظر مدرسة قرية الإسماعيلة مركز المنيا ـ محافظة المنيا، الأستاذ “بهاء محمد” شامخًا كنخلة نبيلة، على شفتيه صرامة، وفي عينيه ألق، ونكاد رغم صياحنا نسمع نبض قلبه المرتجف. كنا في الصف الأول الابتدائي، وفي ثاني يوم دراسي لنا اندلعت حرب أكتوبر فمكثنا في البيوت مدة، وعدنا لنجد الأستاذ بهاء يقف في الطابور، ومعه ورقة تحوي مقطوعة قصيرة ألفها هو، رغم أنه ليس بشاعر، وطلب منا أن نرددها خلفه قبيل تحية العلم، وكانت تقول:

“أيها العلم المصري/ دمت خفاقًا على أرضنا الخضراء/ رفعك جنودنا في سيناء/ وضحى من أجلك رجالًا أوفياء/ فلك التحية ومنا الفداء/ حيوا معي هذا العلم/ تحيا جمهورية مصر العربية..” ويكرر التحية ثلاث مرات.

اضغط على الاعلان لو أعجبك

حب الوطن واجب يفرضه الواقع

إنه حب الوطن الذي يجري في عروق الناس ولا يبحثون لهذا عن سبب، بعضهم يخون فيفقد هذه المشاعر النبيلة، حين يعتبر هذه الأرض مجرد سكن وليست وطنًا، بفعل أفكار خاطئة تعشش في رأسه أو من أجل حفنة من مال، وبعضهم يتململ أحيانًا، لكن حين تأتي الشدة ينسى تململه ويذود عن بلده بكل غبطة وامتنان، وبعضهم يردد مع الشاعر: “بلاد ألفناها على كل حال/ وقد يؤلف الشيء الذي ليس بالحسن/ وتستعذب الأرض التي لا ماء فيها ولا هواء/ لكنها وطن”.

لكن الأغلبية الكاسحة تؤمن بأن الأرض التي دبت عليها، وأكلت من زرعها، وشربت من مائها، وتعلمت من تاريخها وحضارتها العريقة، وعاشرت ناسها، وعشقت فيها نصفها الآخر، فتاة كانت أو فتى، وصنعت في ركابها كل الذكريات أو أغلبها أو أيامها الحلوة، جديرة بأن تحب بذاتها ولذاتها، لكن لا ضير أن نعمق هذا الحب بشعور الناس بالعدل، وتحقيق الكفاية، والشراكة في صناعة المستقبل، ونيل الحقوق، فلا ظلم ولا قهر، وأداء كل الواجبات من دون إبطاء ولا تقصير.

مقالات ذات صلة:

الوطن والوطن البديل

 الفرق بين الانتماء والتعصب

بورسعيد في الأغنية الوطنية وإحياء روح الانتماء

* تنويه: الأفكار المذكورة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع.

_________________________________

لمتابعة قناة اليوتيوب لأكاديمية بالعقل نبدأ، اضغط هنا

لقراءة المزيد من المقالات، اضغط هنا

د. عمار علي حسن

روائي ومفكر مصري