مقالات

غريزة البقاء عند المصريين .. الجزء الرابع

تناول المقال السابق مسألة “البقاء في المكان” لدى المصريين. أما البقاء في الزمان، فلا يقل أهمية. فإذا كان المكان يثبت قائمًا، لا سيما في مصر قلب العالم حيث لا تنقص الأرض من أطرافها، فإن الزمان لا يتوقف أبدًا، ولا يمكن للإنسان أن يسيطر عليه، فيوقفه أو يرجع به إلى الخلف إلا على سبيل التخيل أو التذكر، إذ من المستحيل استعادة الدقائق التي مضت بنفسها، إنما يعيد الفرد التفكير فيها أو الحنين إليها، أو الرغبة في العودة إلى ما كانت عليه.

المصريون مولعون بالنظر إلى تاريخهم البعيد أو القريب، حتى أن هناك من بيننا من يعتبر أن البلاد كلها تنهض حين تتقدم إلى المستقبل أما مصر فتفعل هذا حين تنظر إلى الخلف، لأن ماضيها أفضل من حاضرها. وهو قول إن كان ينطوي على حسرة أو انكسار أو رغبة في عودة مصر إلى دورها الكبير الذي كان قائمًا في العالم القديم، فإن له تجلياته في واقع الناس، التي تتدرج من التقديس إلى الحنين مرورًا بالتبجيل والنكوص بحثًا عن ملاذ نفسي آمن.

لكن هذه النزعة لا تخص المصريين وحدهم، فهي راسخة في وجدان أي إنسان يتقدم به العمر إلى الفناء المادي الدنيوي القادم لا محالة، وفي ثقافة كثير من الشعوب، ومنها الإسلامية جميعًا، التي تصل قديمها بجديدها، وتحتفظ بموروثها في قلب المعاصرة، وتترجم هذا عمليًا في استعادة ما كان سائدًا في زمن مضى من ثقافة، والنظر بإكبار إلى من رحلوا، وتقديمهم على الذين يحيون بين ظهرانينا، حتى لو كانوا أفضل أو أقوى.

فمن بين المصريين مسلمون يرون أن العزة والتمكن يكون بالعودة إلى زمن الخلافة الراشدة، ومسيحيون يحنون إلى زمن ما قبل الفتح الإسلامي، ويستعيد بعضهم فكريًا ونفسيًا زمن الاستشهاد الكبير، ويوجد من يؤمنون بأن الهوية الفرعونية وحدها القادرة على حمل اسم مصر في الزمن المعاصر، بما يُبقي دورها أو مهمتها التي ينتظرها منها العالم.

مع ارتباط قيمة البقاء في الثقافة المصرية بالخيرية، إلى حد كبير، يكون من الضروري ألا يظل البقاء جمودًا وقعودًا وخمودًا، ولا يجب أن يعني التمسك بموضع خرب، والتشبث بأرض يباب، إنما هو احتفاظ بالمكان لا ينقص، مع تنميته باستمرار، بما لا يجعل عطاءه يتواصل فقط، بل ينمو أيضًا.

من الطبيعي، بل المحبذ، أن يسيطر على الإنسان أحيانًا حنين إلى ماضيه، كذلك يحدث للشعوب والأمم، لكن هذا لا يجب أن يكون ارتجاعًا وارتدادًا إلى الخلف، في نكوص إليه، ورضى به على حاله القديمة، إنما من الضروري أن تكون العودة بحثًا عن الجذور العميقة، والأصول الراسخة، التي تقف عليها القدمان في حين تتطاول الأعناق لترى المستقبل البعيد، وتعمل من أجل الذهاب إليه بخطى واثقة.

مقالات ذات صلة:

الجزء الأول من المقال

الجزء الثاني من المقال

الجزء الثالث من المقال

* تنويه: الأفكار المذكورة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع.

_________________________________

لمتابعة قناة اليوتيوب لأكاديمية بالعقل نبدأ، اضغط هنا

لقراءة المزيد من المقالات، اضغط هنا

د. عمار علي حسن

روائي ومفكر مصري