مقالات

طلسم التقدم

 

بنى الإنسان لنفسه عالمًا من الأفكار والفلسفات المختلفة والتى تعكس نظرته لوجوده وغايته فى الوجود، وقامت حضارات واختفت حضارات حتى شهد التاريخ البشرى حضارة تطرح نفسها كحضارة عالمية شاملة؛ حضارة لها وسائلها وقيمها التى تقدمها لنا بوصفها الأفضل لما فيه صالح البشرية، الحضارة المادية.

وأعترف أن هذه الحضارة تمتاز بالحنكة فى الدعايا والإعلام، أقنعونا بأن التنمية تعنى الغرب والغربيين، وعلى من يريد أن ينضم لمصاف الدول النامية الساعية للتقدم أن يقتدى بالنموذج الغربى وبالتغريب.

ولكن على الرغم من كل هذه الدعايا والكلمات الحلوة الرنانة وكل هذه البهرجة، فإن هذا التقدم الذى يزعمون أنه يحمل بين طياته سعادة البشرية هو ذاته نفس التقدم الذى تعانى منه البشرية بأسرها، ولكل حظه من العناء، هذه الحضارة هى التى أدت بالشعوب إلى المعاناة من الأسر والذل والحروب وانتشار الأخلاق الفاسدة والمبادئ المزيفة وشيوع الفساد والانحراف والتفكك الأسرى، حتى تلك الدول التى أقامت هذه الحضارة نالت نصيبها من العناء؛ فلو تمت مقارنة الوضع الأخلاقى لتلك الشعوب قديمًا بالوقت الحالى لوجدنا انحطاطًا أخلاقيًا يعم الغرب الحالى بدرجة لا تُصدق، ولن نجد السعادة ترسم سقف حياتهم، ولكن سنجد معدلات مرتفعة من الاكتئاب والحزن والانتحار والوحدة والتفكك الأسرى بل والفقر أيضًا فى بعض المناطق.

لقد خدعوا أعيننا بالتقدم المادى وجعلوا المعيار والميزان نماذجهم الخاصة وقدموا الدعوة للحاق بركبهم، ورغم ذلك لم يقدموا العون المنشود للبلدان التى لبت الدعوة واتجهت نحو التغريب؛ فعلى الصعيد العملى لم يكونوا أوفياء بالمرة، غير مسموح لغيرهم أن يلحق بالتقدم المادى، نحن سنرى ونسمع عن الرفاهية التى يصنعها تقدمهم المادى ولكن لنشتاق لها وننشغل بها فنكون سوقًا مفتوحة لتصريف منتجاتهم وعقولًا مخدوعة مغيبة بحجاب المادة والأفكار المزيفة.

اضغط على الاعلان لو أعجبك

نحن أمام نموذج ينسب لنفسه التقدم والأفضلية فى كل الجوانب وفى نظر الكثيرين فالتنمية والتقدم لابد أن يكونا طبقًا للنماذج التى رسمها لنا الغرب دون التزحزح عنها قيد أنملة وهو تصور خطير وخاطئ، فلا شك أنهم حققوا القوة والثراء سوى أنهم جروا الويلات على البشرية.

إذن فلابد أن نفك هذا الطلسم، طلسم التقدم ، لابد قبل أن نستقبل مصطلحًا ما ونتعامل معه وندعه يؤثر على عقولنا وحياتنا أن نفهمه ونقف على حقيقته.

لقد جاءت النماذج الغربية على مقاييسهم هم، طبقًا لظروفهم وأفكارهم ومبادئهم ورؤيتهم للإنسان فكان معيارهم هو المادة حتى لو ضاعت القيم والأخلاق وفقد الإنسان حقيقته وجوهره.

لكن لو نظرنا للنظرة العقلية للإنسان، فهو خليفة الله فى أرضه، زوده بقدرة العقل وأمره بإعمار الأرض بالعدل وهيئ له الكون بكل كنوزه من أجل الإعمار والإبداع والارتقاء والصعود فى مسيرة التكامل البشرى.

إنها النظرة للإنسان، تلك النظرة التى تجعل الفرق بين مبادئنا ومبادئ تلك الحضارة جذرى وعميق، تلك النظرة التى تجعلنا نراها على حقيقتها ضعيفة واهية لا مستقر لها.

فلا تشتبه علينا الأمور، وكما يقول الدكتور محمد عمارة “أن عبور الفكر كل الفكر للحدود كل الحدود لا حرج فيه عند أنصار هذه الحضارة، فالعالم وطن واحد حضارة واحدة والأمم مجرد درجات ومستويات فى هذا البناء للحضارة الواحدة”، ومن يعارض هذا فهو عدو السلام والالتحام العالمى والوحدة البشرية.

يبيعوننا وهم، وهم الحرية ووهم السعادة ووهم احترام الإنسان ووهم تحرير المرأة فلا نجنى سوى الانحراف الأخلاقى وتشوه الفطرة وتفكك الأسر واستعباد الإنسان إما بالقيد والحرب وإما بالشهوة.

نحن لا نعارض أبدًا التقدم المادى، فهو لا غبار عليه ولكن بشرط أن يكون وسيلة لا غاية؛ وسيلة لرفعة الإنسان وسموه.

نحن لا نعارض الحضارة العالمية والوطن الواحد ولكن دون فقد الهوية الإنسانية، نريدها حضارة للبشرية حقًا، تخدم الإنسان كل إنسان وليس المصالح النفعية لبعض بنى الإنسان، لهذا يجب أن نحافظ على هويتنا، التى يمكن أن تُحيى حضارة إنسانية.

إن أى انحراف ثقافى فكرى يؤدى إلى خواء المجتمع وشعوره بالفراغ حتى وإن كان قويًا اقتصاديًا وسياسيًا، فلابد من الاستقلال الفكرى وأى ثقافة ترتبط بثقافة أخرى مخالفة لها سَيُفقد الثقافة الأصلية وجودها فلا يعبر كل الفكر ولا تهدم كل الحدود، تعبر فقط العلوم والمشتركات الإنسانية كالفيزياء والكيمياء والطب، لكن المبادئ والهويات لا تقبل المساس، الفكر ليس مجالًا للتجارب، إن الامم تنهض مهما طال رقودها تنهض من كبوتها ما بقيت هويتها وثقافتها.

نريد حضارة إنسانية مؤمنة بالعقل، مستندة إليه، منطلقة به نحو صلاح الإنسان.

لقراءة المزيد من المقالات يرجى زيارة هذا الرابط.

ندعوكم لزيارة قناة أكاديمية بالعقل نبدأ على اليوتيوب.

دعاء محمود

طالبة بكلية الطب جامعة المنصورة

باحثة بفريق مشروعنا بالعقل نبدأ بالمنصورة