مقالاتقضايا شبابية - مقالات

كيف يتم بناء الحضارة؟ ولماذا تتصارع الحضارات؟

سؤال استوقفني!

تحيرت كثيرا وأنا أفكر في الأساس السليم الذي تقوم عليه الحضارة. ما هي الركيزة الضرورية لبناء تلك الحضارة الإنسانية الحقيقية التي تحقق للإنسان الأمل المنشود في العدالة مع التطور والتقدم التكنولوجي؟

إن خلفيتي الدراسية المادية اضطرتني في كثير من الأحيان أن أركن إلى المفتاح أو الأساس المادي القوي. فالحضارة القوية كانت في اعتباري هي الحضارة التي تمتلك المقومات المادية الكافية التي توفر بها الرخاء لأهلها والويل والهلاك لأعدائها ومنافسيها.

كانت هذه النتيجة هي ما يتحتم علينا الذهاب لها في خضم النسق المادي الدقيق الذي نعايشه في كافة مجالات حياتنا. فحتى المتعة والترفيه في السينما والألعاب والنزهات والملاهي ترسخ بداخلنا هذه الاعتقادات. لقد انتهى عصر “الاستغماية” والـ”كيلو بامية” وقلعة الرمل ولعبة الحجلة. لم نعد نعرف المتعة والسعادة والتفوق والنجاح إلا من خلال التكميم المادي لأي عمل أو إنجاز أو نشاط.

وقفة مع النفس

ولقد استسلمت بالفعل لهذا الاعتقاد لسنوات طويلة. فعكفت على العلوم التطبيقية كمنفذ وسبيل لمصدر القوة المادية. فوراء كل اختراع مجموعة من المعادلات والتفاعلات والصناعات والتركيبات التي تحوله من المواد الخام البسيطة الأولية لهذا المنتج البراق الذي يسلب ألبابنا ويسحرنا بإمكانياته وقدراته.

اضغط على الاعلان لو أعجبك

فقررت إتقان تلك العلوم على قدر استطاعتي والسير وراء عازف الناي حتى أصل لنقطة الأصل ومنبع القوة فأرتوي منه وأنفع به الناس من حولى بعد أن تمكنت من دروب وطرق تسخير المادة في خدمة الإنسان. فكان هذا هو النموذج الحضاري لدي. إتقان العلوم التطبيقية وتعظيم قدرة الإنسان في تسخير المادة ليحقق سعادته.

استمر هذا الطريق يميل بي ويتأرجح يمينا وشمالا وكلما مللت منه وتعبت وكدت أستسلم رأيت بريقا هنا أو شعاعا هناك فأستلهم منه الأمل والهمة لأستكمل الدرب وأصل لمرادي.

الآن وجب علي أن أتوقف وأسأل نفسي وأن أنظر للخلف ولما أبليته في هذه الأعوام التي ذهبت ولن تعود.

جلسة حوار

كنت جالسا في أحد المقاهي مع بعض أصدقائي نتكلم ونتناقش سويا. تطرق الحديث للمستقبل والهجرة والسفر نحو واقع أفضل وحياة أرقى لنشعر بالتقدير والقيمة التي نفتقدها. وقد اتخذت الجانب المعارض لفكرة الهجرة. فأنا لا أرى في الهروب من المشكلة حلا ولكنه هروب من مشكلة لمشكلة أخرى. وهي فكرة لدي لا أفرضها على أحد ولكن أدافع عنها إن لزم الأمر وتناسبت الظروف.

ثم تطرق بنا الحديث نحو تجربة ذهنية أردت منها الاستدراك نحو أساسيات المجتمع ومقوماته الضرورية. فافترضت حالة من التفكك الاجتماعي الشديد وغياب كامل لمنظمات المجتمع التي تحركه وتنظم شؤونه بالإضافة للتغييب العلمي والثقافي الذي يسود المجتمع (الجهل).

اضغط على الاعلان لو أعجبك

وطلبت من زملائي أن يضعوا أنفسهم في هذا الموقف والظرف. وأن يتخيلوا أنفسهم في مقام المسؤولية والقدرة في هذا المجتمع أي أنهم يملكون القدرة على اتخاذ القرار. وسألتهم عن القرارات الأولى التي يرونها ضرورية لتطور هذا المجتمع للأفضل ووصوله لحالة التحضر والرقى التي يتمناها.

من أين نبدأ؟

اتفقت الآراء على أننا لا بد أن نبدأ ببناء الكوادر والسواعد التي تستطيع تطوير هذا المجتمع وتغيير حياته للأفضل. فاتفقت معهم، ولكن سألتهم أي أنواع الكوادر تقصدون وأي نوع من التطور تريدون لهذا المجتمع؟ فكانت وجهة النظر الأقوى هي الكوادر التطبيقية التي تتقن فنون الفيزياء والكيمياء والأحياء وفروعها لتوفر للناس الطعام والدواء والماء والخدمات والتكنولوجيا والقوة المادية التي تتحقق بها حضارة قوية غنية توفر الرخاء للمجتمع وتدافع عن نفسها ضد أي تهديد.

وهنا ظهر تساؤلان، الأول: هل السعادة أو القوة تختصر في الجانب المادي فقط؟ والثاني: هل تكفي القوة المادية وحدها في تنظيم شؤون الفرد والمجتمع؟ فلو صدقت تلك الافتراضات لوجب فعلا أن نعمل بالرأي الذي يعطي الأولوية في بناء المجتمع للكوادر التطبيقية. ولكن لو كذبت أي من تلك الافتراضات فإننا سوف نصل لنتيجتين: أن هناك في المقام الأول مكونات أخرى ضرورية للسعادة والقوة والحضارة غير القوة المادية والتي لا تتحقق إلا بوجودها، وأن هذه المكونات الأخرى الضرورية يجب أن تتنافس مع المجالات التطبيقية في أولويات بناء الكوادر ونهضة المجتمع طالما أنها في أقل تقدير ضرورية وإن لم تكن كافية.

سعادة بلا تعريف

ولأوضّح ضربت مثالا: فقلت إن نموذجكم عن السعادة يختزل السعادة في المادة. إذن لماذا لا نجد أسعد الناس أغناهم؟ بل نجد الكثير ممن تكاملت لديهم سبل المادة وإمكانياتها لم يحصّلوا السعادة المرجوة والمنشودة. بينما نجد الكثير ممن لا تتوفر لهم مثل تلك الكمالات ليس لديهم هذا القدر من التعاسة الذي نجده عند الأغنياء والمقتدرين ماديا.

لماذا لا تزال أثرى الأمم والدول تحارب وتنافس أفقرها وأضعفها وتطمع فيما لديها؟ فلو أن التكامل المادي وحده يكفي لوجب أن نرى من توفر لديه هذا التكامل في راحة وسعادة، ولما كان الواقع يناقض تلك النتيجة. إذن فالمقدمة باطلة، فالتكامل المادي وحده لا يكفي.

اضغط على الاعلان لو أعجبك

الحضارة و المستكبرين

الأمر الثاني والأهم هو أن امتلاك القدرة المادية لم يمنع الإنسان من أن يطلب ما في يد غيره بالحيلة أو بالغصب والاستضعاف. ولهذا ظهر التزاحم والتنافس الدموي الذي نشاهده على المقياس الفردي أو المقياس الاجتماعي والدولي والإنساني سواء.

فقواعد المادة وحدها في هذا العصر المتقدم تكنولوجيا أكثر من أي عصر مضى بالإضافة لتوفرها ولو بمقدار ملحوظ في العصور الأخرى لم تكن كافية؟ لكبح جماح الطمع والحقد في الإنسان. ولذلك وجدنا أن لدينا من يموت من التخمة ومن يموت من المجاعة والقحط. فيلزم من هذا المثال أن هناك مكونات أخرى ضرورية للسعادة والحضارة غير التكامل المادي وأننا يجب أن نبحث أولا عن تلك المكونات الأخرى الضرورية للسعادة ونعرفها التعريف الواقعي الملائم ومن ثم نقيّم أهميتها لنعرف أولويات بناء الكوادر الاجتماعية فاين الحضارة اذا.

إنسان ألعوبان

وهنا لا بد لنا من أن نلاحظ شكلا من أشكال ازدواجية المعايير لدى الإنسان المعاصر. فالإنسان المادي اليوم إن غلبته الأقدار على أن يُنتزع منه ما هو حقه فإنه حين يفشل في استرجاعه يعول ذلك على انعدام معايير العدل والأخلاق و الحضارة الإنسانية في المجتمع وينتقد المجتمع الذي يسوده منطق القوة. أما إذا فشل في انتزاع ما يريده من غيره سواء كان من حقه أم لا، فإنه يرى ذلك بسبب ضعفه وعدم امتلاكه للقوة المادية الكافية التي يرغم بها منافسه على إعطائه ما يريد.

هذه هي ركيزة الازدواجية في المعايير الأساسية. فالإنسان تارة يرى تكامله في القيم والأخلاق، طالما أنها تعزف على وتر مصلحته، وتارة أخرى يرى التكامل في القوة المادية طالما أنها تحقق مبتغاه حتى وإن خالف في ذلك الأخلاق والقيم التي كان يتشدق بها يوم شدته وأزمته. فالإنسان إذن  يدرك في عقله هذا المكون الآخر للسعادة ولكنه لا يقر به إلا إذا اطمأن أن الإقرار به سيلعب دورا في صالحه.

الحضارة ركيزتين

عامة لن نحلل النفسية الإنسانية في هذا المقام ولكن نكتفي بأن نستدل من هذا السرد على المكون الآخر للسعادة. وهذا يتفق مع التكوين الطبيعي للحياة الإنسانية التي تتكون من المادة كوجود يسخره الإنسان لإرادته، والإنسان وهو المسخر لهذا الوجود. فكما أننا لا نتوقع السعادة دون إتقان قواعد سلوك المادة (العلوم التطبيقية) فكيف لنا أن نتوقع السعادة ونحن لا نعرف أو لا نتبع قواعد السلوك الإنساني.

اضغط على الاعلان لو أعجبك

فكان منطقيا أن ترتكز الحضارة الإنسانية على تلك الركيزتين: القواعد التي بها تكون وتسلك المادة، والقواعد التي بها يكون ويسلك الإنسان. ولا قوام لتلك الحضارة الحقيقية بركيزة واحدة دون الأخرى.

دروب المعرفة الإنسانية و الحضارة

إن هذا النقاش يدخلنا في درب لا يحب الكثيرون الخوض فيه ولا عجب. فهذا الدرب يطرح الكثير من الأسئلة التي قد لا نعرف إجاباتها، قصورا أو تقصيرا في بعض الأحيان، وفي البعض الآخر نعرف الإجابات يقينا ولكن لأنها لا تجري مجرى أهوائنا ولا تعزف على أوتار مصلحتنا نتجاهلها ونتظاهر أننا بها جاهلون.

فهذه القواعد والقيم السلوكية الإنسانية لو سلمنا أنها من المكونات الأساسية للسعادة فيجب علينا أن نسأل عن إمكانية وكيفية معرفتها، وعن كيفية التأكد من صحتها وسلامتها كقواعد تنظم سلوك الإنسانية. وهذا يتطرق بنا نحو مجال تحقيق آخر وهو مجال المعرفة أو العلم بالواقع. فبأي شيء نقيّم العلم علما والخرافة خرافة والحقيقة حقيقة والكذب كذبا؟

العلم واليقين

إن لنا في ذلك سبيلين، الأول: مقارنة يقيننا في العلوم التطبيقية بيقيننا في العلوم الإنسانية وعن طبيعة تلك المعلومات هل بينها اختلاف أم توافق؟ فإن التوافق بينها في الطبيعة يسمح لنا أن نستخدم نفس أساليب التحصيل والتيقن مع العلمين. أما لو اختلفت فإن دراسة أوجه الاختلاف والتطابق يمكّننا من التعامل مع كل جانب وفق طبيعته واختيار آلة التحصيل والحكم التي تناسب طبيعة كل علم.

أما السبيل الآخر فهو النظر لواقع الإنسان نفسه وحصر قدراته في تحصيل العلم والحكم عليه واختيار ما هو ممكن من تلك الآليات بما يتناسب مع مجال العلم المراد تحصيله.

فالأول هو سبيل النظر لواقع العلم  وأنواعه واحتياجاته في التحصيل والتدقيق، والثاني نظر لواقع المتعلم وحصر قدراته. ولا بأس من النظر بالسبيلين ليحدث التوفيق بين متطلبات العلم وقدرات المتعلم إذا أردنا بناء الحضارة الإنسانية الحقيقية.

فإذا وصل بنا التباحث لهذه النقاط فقد وصلنا لأول الخيط وبداية الحل. وليس المقام هنا الإجابة عن تلك المواضيع. فهذا ليس درس فلسفة أو منطق. خاصة وأن الخوض في كل مفهوم من هذه المفاهيم يحتاج لتفاصيل دقيقة كثيرة. ولكن الأساس هنا هو أن المشكلة ليست في قدر القوة التي نمتلكها. ولكن في العقل المدبر وراء هذه القوة؛ ذلك العقل الذي بإمكانه فعلا أن يبني صرح الحضارة الحقيقي.

اقرأ أيضا:

 العلاقة بين الترتيب والسعادة – رتب دماغك تنعم بحياتك

عن فيلم الدائرة (THE CIRCLE)

ابدأ بالتغيير.. ما هو حل المشكلة ؟ كيف تغير المدرس بعد توبيخ المدير له ؟

لقراءة المزيد من المقالات يرجى زيارة هذا الرابط.

ندعوكم لزيارة قناة أكاديمية بالعقل نبدأ على اليوتيوب.

حسن مصطفى

مدرس مساعد في كلية الهندسة/جامعة الإسكندرية

كاتب حر

باحث في علوم المنطق والتفكير العلمي بمركز”بالعقل نبدأ للدراسات والأبحاث”

صدر له كتاب: تعرف على المنطق الرياضي

حاصل على دورة في مبادئ الاقتصاد الجزئي، جامعة إلينوي.

مقالات ذات صلة