مقالات

غزة وصبر استراتيجي.. من التراب للسحاب

شكرًا للأستاذ فهمى هويدي على إهدائه لنا ولأهلنا في غزة وللأمة هذا التوصيف العبقري الذي أدركناه جميعًا، لكنه، وكعادته دائمًا في التقاط المعنى والتقاط أدق لفظ يسعه ويصفه فقد سبقنا وأهداه لنا “الصبر الاستراتيجي”.

مصطلح جديد تمامًا سيتعلمه العالم كله ضمن ما تعلمه من أهل غزة ومقاتليها الأشداء في حرب القرن الـ21 التي تفتتح تاريخًا جديدًا للشرق الأوسط “قلب العالم”، ومن ثم للعالم كله.

ليس فقط لأن هذه الحرب حرب عالمية باعتبار أن العالم كله منخرط فيها، ولا حتى باعتبار أن الطرف الرئيسي في الحرب إسرائيل مكون من 92 جنسية مختلفة، بل لأسباب أخرى كثيرة سيكشفها الوقت.

الحرب العالمية الأولى/1918م كان أحد أهم أهدافها الكبرى إنهاء الرابطة التي تربط العالم الإسلامي في رباط واحد (الخلافة العثمانية).

ومن أراد مزيدًا في معرفة هذا الهدف تخطيطًا وتنفيذًا يرجع إلى رسالة الدكتوراة للعلامة د/ عبد الرازق السنهوري /ت1971م “الخلافة وتطورها لتصبح عصمة أمم شرقية” التي أنجزها سنة 1923م في باريس.

اضغط على الاعلان لو أعجبك

الحرب العالمية الثانية/1945م كان أحد أهم أهدافها إقامة دولة معادية لجيرانها بين الشرق الإسلامي وغربه، وتقع تحديدًا بين مصر والشام ومن أراد مزيدًا في هذا الهدف تخطيطًا وتنفيذًا يرجع إلى كتاب الأستاذ هيكل ت/2016م “القنوات السرية” وما ذكره عن وثيقة “كامبل بنرمان”.

ما نشهده الآن في غزة سيكتبه التاريخ تحت عنوان الحرب العالمية الثالثة، هي حرب بين الشرق والغرب.

على الرغم من أن الشرق اختزل نفسه في “فئة قليلة” بالغة البهاء والنقاء، وربطت نفسها بأوثق رباط يجعلها في قلب التاريخ، وهي بنفسها اختزلت دورها في الذهاب إلى المدى الأخير في هذه الحرب وهو تحرير المسجد الأقصى.

نتنياهو ذكر كثيرًا أن هذه الحرب حرب الشرق والغرب، وهي حرب 2 مليار مسلم، لكن حكومات الغرب لم تلتفت له وتغني على مغناه، لأنهم لا يقولون ذلك بهذا الجهر، هم يفعلوه فقط.

ونتنياهو لا يقول ذلك غباء منه لإحراجهم وتوريطهم، لا ليس الأمر كذلك، نتنياهو ذاته كان عنصرًا جوهريًا من عناصر تلك القفزة التاريخية الكبرى التي يعيشها الشرق، مع طوفان الأقصى.

وإذا اشتغل أحد الباحثين النشطين على كل ما قاله نتنياهو وفعله من أول الحرب، سيكتشف أن وجوده كان هامًا جدًا لتحقيق هذه الهزيمة الاستراتيجية الكبرى لإسرائيل والوحيدة تقريبًا من يوم تأسيسها. أتصور أن تخطيط طوفان الأقصى وتنفيذه اعتمد في جانب رئيسي منه على وجود شخص بتركيبة نتنياهو في مركز القرار.

سنتأمل سيناريو افتراضيًا بسيطًا كان من الممكن أن يحدث ردًا على 7 أكتوبر، لكنه لم يحدث، لماذا؟ لأن التاريخ لا يمثل الإنسان فيه أكثر من تجسيد مادي محدود لحركته ولا علاقة له بصنعه ولا حتى توجيه مساراته.

لذلك فقد سارت الأمور بعد 7 أكتوبر في مسارها المقدر تمامًا، رغمًا عن الإنسان، وحتى رغمًا عن تدفق إرادته في هذا التجسيد المادي، على وصف العالم الفرنسي المعروف ألكسيس كاريل ت/1944م مؤلف كتاب “الإنسان ذلك المجهول”.

ما هذا السيناريو الافتراضي الذي لم يحدث؟!

سنتخيل أن يوم 8 أكتوبر 2024م، اجتمعت أجهزة مخابرات الغرب وإسرائيل وأمريكا وأمعنوا النظر فيما حدث، وأدركوا أن الموقف صعب للغاية، ومكمن الصعوبة الأول: الأسرى والرهائن الموجودين في غزة لدى المقاومة، والثاني: أن وراء هذا الحدث أسرار وأمور كبيرة قدر المجهول فيها أكثر كثيرًا من أي شيء معلوم لديهم.

ومن ثم فمن الخطأ المبادرة بخطوة الانتقام الأعمى في هذا التوقيت، وعليه فيجب تحجيم رد الفعل المتوقع ردًا على ما حدث والتمهل.

وفي الوقت نفسه البدء فورًا بالاتصالات للتوصل إلى الإفراج الكامل والفوري عن المحتجزين لديها جميعهم، حتى ولو كان الثمن تبييض السجون، وحتى لو كان الثمن رفع الحصار عن القطاع، ولنفترض في هذا السيناريو الذي سيكافئني عليه نتنياهو وبايدن بأثر رجعي! أن المهمة أنجزت وخرج جميع الأسرى من الطرفين ورُفِع الحصار.

وبعدها بشهر أو عدة شهور، اختُلِقت ذريعة من ذرائع اليهود المعروفة، للانتقام الرهيب. كما انتقم شايلوك المرابي اليهودي الكريه، من أنطونيو الفارس المسيحي النبيل في رائعة شكسبير “تاجر البندقية”، والاجتياح الكامل للقطاع والعربدة فيه كما يحدث الآن، لكن بعد انتزاع أهم ورقة ضغط من أيدي المقاومة وهي الأسرى.

كان المجتمع الإسرائيلي وقتها الذي يتداعى الآن وينهار، كان سيظل على حالته قبل 7 أكتوبر ساندًا وداعمًا للدولة والجيش، وما كانت الدولة نفسها لتتعرض لهذه التصدعات والصراعات كلها التي أجهزت على ما تبقى من رابط يربطهم.

لماذا لم يحدث هذا السيناريو؟

لأن الهزيمة والخزي والانكسار والعار كانوا يطلبونهم “الغرب وإسرائيل”، كما يطلب الماء انحداره من أعلى هضبة لأسفلها.

موقع أكسيوس الإخباري الشهير ذكر يوم الجمعة 5 إبريل أن وليام بيرنز مدير المخابرات الأمريكية سيكون في القاهرة ليلتقي بأطراف الموضوع جميعهم في مسعى أخير تقريبًا، لإخراج إسرائيل والغرب من هذه الكارثة دون عار يتبعه عار، كما تتسلسل العارات في العادة.

ومحاولة أخيرة وأهم لسحب الموضوع بعيدًا عن المستقبل الذي تريده المقاومة لفلسطين والأقصى، الذي سرعان ما سينتشر في ربوع الديار العربية.

المشكلة لديهم أنهم ليسوا فقط لا يريدون هذا المستقبل بأي وجه، لكن الأهم أنهم غير قادرين على مواجهته ولا منعه.

لدينا في الثقافة الإسلامية أن جزاء الصبر لا تستطيع قدرات البشر توقعه أو إدراكه أو حتى تخيله، وقد رأى بعضنا ذلك في حياته وحياة من حوله بشكل أو بآخر، ذلك أنه جزاء من تقدير الكريم رب السموات ورب الأرض ورب العالمين، فما ظنكم بجزاء “الكريم”؟!

الشعب الفلسطيني صبر صبرًا طويلًا، صبر على الأعداء والأشقاء، صبر على من صدقه وصبر معه، وعلى من كذبه وغدر به، صبر على من وفّى وحفظ، وعلى من خان وضيّع.

صبر إيمان، صبر حقيقة، صبر بصيرة، صبر ذخيرة، صبر صمود، صبر بشري ونصر اقترب قرب الصبح من النهار.

وتوج هذا الصبر كله بنوع جديد تمامًا من الصبر، استمده من تلك الروح التي بعثها الله في هذه البقعة من الأرض التي ارتوى ترابها برواء من دماء الطاهرين والطاهرات، رجالًا ونساء كبارًا وصغارًا، تلك الأرض التي أراد الله لها أن تكون بؤرة النور وسط ظلمات بعضها فوق بعض.

ولدينا أيضًا في الثقافة الإسلامية، أنه ما تسقط من ورقة من شجرة إلا يعلمها الله، ولا حبة موجودة في ظلمات الأرض ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين عند الله الحفيظ على كل شيء.

لذلك كان الصبر الذي صبره أهلنا في غزة صبرًا استراتيجيًا بكل ما تحمله كلمة استراتيجي من حمولات ومعاني ودلالات في التاريخ والجغرافيا والسياسة والاقتصاد والسلاح والأخلاق والزمن و الحياة والموت.

لقد خسر الغرب وإسرائيل ما بنوه في سبعين سنة، خسارة استراتيجية هائلة وتداعياتها ستكون رهيبة وطويلة المدى.

كما كان على العالم العربي من الخمسينيات، أن يتجهز ويستعد لوجود إسرائيل في قلب قلبه، وكان الذل والفقر والمرض والجهل والهزيمة تلو الهزيمة وشرب أكواب الوهم اللذيذ، ضرورة من ضرورات هذا التجهيز والاستعداد.

فعلى العالم العربي الآن أن يتجهز ويتحضر لغياب إسرائيل، ليغيب معها وخلفها كل ما كان ضرورة لوجودها.

ويقصر في عين الأبطال المدى الطويل.

مقالات ذات صلة:

عاش الأحرار

حروب الاستقلال

غزة والغزاة

* تنويه: الأفكار المذكورة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع.

_________________________________

لمتابعة قناة اليوتيوب لأكاديمية بالعقل نبدأ، اضغط هنا

لقراءة المزيد من المقالات، اضغط هنا

د. هشام الحمامى

رئيس المركز الثقافي اتحاد الأطباء العرب – عضو الأمانة العامة والمجلس الأعلى لاتحاد الأطباء العرب – مدير الشئون الطبية بقطاع البترول