مقالات

سيكوندوس: الفيلسوف الصامت! .. الجزء الثاني

توالت إجابات الفيلسوف الصامت عن أسئلة الإمبراطور «هادريان»، مع ملاحظة أن أغلب إجاباته التعريفية عن ما طرحه الإمبراطور من مصطلحات بمنزلة مترادفات أو أوصاف للشيء من حيث هيئته ووظيفته، وقد تكون هذه التعريفات مقبولة عمومًا، فيما عدا تعريفه للمرأة الذي جاء صادمًا ومرفوضًا، وإن كان عاكسًا لتجربته القاسية التي دفعته إلى الصمت (الجزء الأول من المقال)، ومُعبرًا عن الثقافة الأبوية التي كانت سائدة في اليونان القديمة، إذ حُرمت المرأة حق التصويت أو امتلاك الأرض أو الميراث، وكان المنزل مكانها الطبيعي لتربية الأطفال. ورغم وجود مجموعة مميزة من الشخصيات النسائية في الدين والأساطير اليونانية، فإن النزعة الذكورية كانت أكثر هيمنة على الأدب اليوناني، إذ غالبًا ما صُوِّرت النساء أنهن مثيرات للمشكلات، من «هيرا» (Hera) الغيورة، إلى «أفروديت» (Aphrodite) التي تستخدم سحرها لسلب الذكاء من الرجال، إلى «ميديا» (Medea) الساحرة، إلى «المينادات» (Maenads) المحكومات بالعاطفة الجامحة وجنون النشوة، إلخ. ومع ذلك يظل رأي «سيكوندوس» في المرأة خاصًا به، وإن كنا قد أوردناه كما هو التزامًا بالأمانة العلمية.

كتب «سيكوندوس» في البداية قائلًا:

«هادريان»: الكون نظام السماوات والأرض وما فيهن. وسوف أتحدث عن هذا بعد قليل، إن انتبهت لما يُقال الآن. وأنت أيضًا يا «هادريان»: إنسانٌ مثلنا جميعًا، خاضع لأنواع الحوادث كلها، محض غُبار وفساد. تأمل حياة الوحوش الضارية: بعضها تكسوها الحراشف، وبعضها أشعث الشعر، بعضها أعمى، وبعضها مُزين بالجمال. جميعها لديها الملابس ووسائل الحماية التي وُلدت بها ومنحتها إياها الطبيعة. لكنك يا «هادريان» تُساورك المخاوف والهواجس دومًا، ترتجف من البرد حين تهب رياح الشتاء، وتستاء كثيرًا من قيظ الصيف. أنت منتفخ ومليء بالثقوب مثل قطعة إسفنج، لأن النمل الأبيض يعبث في جسدك، وقطعان القُمل تحفر الأخاديد في أحشائك. وقد احترقت فيك الأخاديد، لترسم خطوطًا مثل تلك التي تخطها نار الرسامين. ولأنك مخلوقٌ قصير العمر ومليءٌ بالعيوب، فإنك تتوقع أن تُقطَّع وتُمزَّق، تُشوى بحرارة الشمس، وتكابد البرد بعواصف الشتاء! ضحكتك لا تعدو أن تكون مقدمة للحزن، لأنها تتحول وتنقلب إلى بُكاء. وماذا عن الضرورة التي تُسيطر على حياتنا؟ هل نقول إنها القدر المرسوم من السماء، أم نقول إنها نزوة الحظ الشخصي الطارئة؟ نحن لا نعرف من أين تأتي. اليوم يمر بنا بالفعل، ولا نعرف ما سيكون غدًا. لذا لا تُفكر باستخفاف يا «هادريان» فيما أقوله. لا تفتخر بأنك وحدك قد طوَّقت العالم في رحلاتك، لأن الشمس والقمر والنجوم هي التي تُطوق العالم حقًا برحلاتها. لا تظن كذلك أنك جميلٌ وعظيمٌ وغنيٌ وحاكم للعالم المأهول، ألا تعلم أنك، لكونك إنسانًا، وُلدت لتكون ألعوبةً في الحياة، عاجزًا بين يدي الحظ والقدر، عزيزًا أحيانًا، وذليلًا أحيانًا أخرى؟ ألن تتمكن من معرفة ما هي الحياة يا «هادريان» في ضوء كثرة من الأمثلة؟ تأمل مدى ثراء ملك الليديين Lydians بأظافره الذهبية (الليديون شعب كان يعيش في منطقة غرب الأناضول تُعرف باسم «ليديا» Lydia، في القرن الأول قبل الميلاد تقريبًا). كان «أجاممنون» (Agamemnon) ملك «الدانانيين» (Danaans)، شعب يوناني ذكره «هوميروس» في «الإلياذة»، عظيمًا كونه قائدًا للجيوش، وكان «الإسكندر» (Alexander) ملك المقدونيين (Macedonians) جريئًا وصلبًا، وكان «هرقل» (Heracles) شجاعًا، وكان «الصقلوب» (سايكلوبس/ Cyclops) عملاقًا متوحشًا وجامحًا («الصُقلوب»: الاسم المعرب لكلمة إغريقية تعني دائري العين. والصقاليب مسوخ من جنس الجبابرة، ذوو عين واحدة وسط الجبهة، وهم في الأساطير الإغريقية عمال مهرة يصنعون الصواعق وأسلحة الآلهة ويحققون الأعمال الكبيرة والضخمة)، وكان «أوديسيوس» (Odysseus) داهية ومُراوغًا، وكان «أخيل» (Achilles) جميل المنظر. إذا سلب الحظ من هؤلاء تلك السمات المميزة لهم، فإلى أي مدى يمكن أن يسلبها منك؟ أنت لست جميلًا مثل «أخيل»، ولا داهية مثل «أوديسيوس»، ولا جامحًا مثل «الصقلوب»، ولا شجاعًا مثل «هرقل»، ولا قويًا وجريئًا مثل «الإسكندر»، ولا قائدًا عظيمًا للجيوش مثل «أجاممنون»، ولا غنيًا مثل «جيجيس» (Gyges) ملك الليديين!

لقد كتبت هذا كله يا «هادريان» على سبيل التقديم. الآن دعنا نمضي قدمًا في الإجابة عن أسئلتك:

ما الكون؟

محيطٌ بعيد المنال، بنيةٌ نظرية، سُموٌ لا يمكن إدراكه بسهولة في مجمله، موضوعٌ للتأمل متولد ذاتيًا، تشكيلٌ متعدد الجوانب، نظامٌ أبدي، أثيرٌ مُغذي، كرة لا تحيد عن موضعها، ضوء الشمس، النهار، النجوم، الظلام، الليل، الأرض، الهواء، الماء.

ما المحيط؟

شيءٌ يحتضن العالم، حدٌ يُتَّوج به العالم، حزامٌ مائي ملحي، رباطٌ أطلسي، دائرة تحتضن الطبيعة برُمتها، مرآة تعكس ضوء الشمس، دعامةٌ للعالم المأهول.

ما الله؟

خيرٌ ذاتي التكوين، صورةٌ متعددة الأشكال، جلالٌ سامقٌ لا تُدركه الأبصار، هيئةٌ متعددة الجوانب، مشكلةٌ يصعب فهمها، ذكاءٌ سرمدي، روحٌ تسود وتعم الوجود، عينٌ لا تنام، قوةٌ معروفة بكثرة من الأسماء، نورٌ يعم الجميع.

ما النهار؟

ملعبٌ للكدح، دورةٌ مدتها اثنتي عشرة ساعة، بدايةٌ يومية، تذكرةٌ بالسعي لطلب الرزق، وقتٌ ممتد حتى المساء، تواصلٌ نشط مع الناس، حسابٌ دائم في التقويم، مرآةُ الطبيعة، ذكريات متدفقة.

ما الشمس؟

عينُ السماء، خصمُ الليل، كرةٌ في الأثير، مؤشرُ الكون، لهبٌ نقي، نورٌ لا ينقطع، شعلةٌ مجانية، رحالةٌ عبر السماء، زينةُ النهار.

ما القمر؟

قِرمِزيّ السماء، سُلوانُ الليل، حراسةُ البحارة طوال الليل، مُشجع المسافرين، بديلُ الشمس، عدوُ الأشرار، بشيرُ الأعياد، دورةُ الشهور.

ما الأرض؟

قاعدةُ السماء، وسطُ الكون، مشهدٌ مسرحيٌ بلا أساس، شيءٌ متجذر في الجو، محيط لا متناه، ساحةُ صراع الحياة، نظامٌ أنشأه الله، موضوع حراسة القمر طوال الليل، مشهدٌ لا يمكن رؤيته دفعة واحدة، حاضنةُ الأمطار، حصنُ المحاصيل وأمها، غطاءُ الجحيم، منطقةٌ مأهولة بالسكان، أصل الأشياء كلها ومستودعها النهائي.

ما الإنسان؟

عقلٌ مكسو لحمًا، وعاءٌ حاوٍ للروح، وعاءٌ للإدراك الحسي، روحٌ مثقلة بالكدح، مَسكَنٌ مؤقت، شبحٌ في مرآة الزمن، كائنٌ حي ذو عظام، كشَّافٌ في درب الحياة، ألعوبة الدهر، شيءٌ جيد لا يدوم، أحد نفقاتُ الحياة، كائنٌ منفىٌ من الحياة، هاربٌ من النور، شيءٌ ستستعيده الأرض، جثةٌ إلى الأبد.

ما الجمال؟

صورةٌ رسمتها الطبيعة، نعمةٌ ذاتية الصُنع، قطعةٌ من الحظ الجيد قصيرة الأجل، ملكية لا تدوم لنا، مهلكةُ الشخص التقي، حدثٌ عارض للجسد، وزيرُ للملذات، زهرةٌ تذبل، ‎منتجٌ خالص (غير مركب)، رغبة الإنسان.

ما المرأة؟

شهوةٌ للرجل، وحش مفترس يشاركه الرحلة، همٌ يستيقظ به كل صباح، شهوانيةٌ متشابكة، لبؤة تتقاسمه الفراش، أفعى في ثياب، معركةٌ طوعية، غُلمةٌ في صورة شريك سريري، خسارةٌ يومية، عاصفةٌ في البيت، عائقٌ أمام السكينة، حطامُ رجل منفلت، مخزونٌ تجاري للزناة، سلبٌ للممتلكات، حربٌ باهظة الثمن، مخلوقٌ شرير، عبءٌ ثقيلٌ للغاية، إعصارٌ مدمر، أفعى سامة، خدمةٌ مقدمة في إنجاب البشر، شرٌ لا بد منه.

ما الصديق؟

اسمٌ منشود، إنسانٌ غير ماثل للعيان، متاعٌ يصعب العثور عليه، مؤازرٌ في وقت الشدة، ملاذٌ في المصائب، ذراعٌ للبؤس يمكن الاتكاء عليه، راصدٌ للحياة، إنسانٌ بعيد المنال، ملكيةٌ كبيرة وذات قيمة، حظٌ جيد مستحيل إدراكه.

ما المُزارع؟

خادمٌ لمحاصيل، قاضٍ للأمطار، رفيقٌ للأرض المقفرة، تاجرٌ لا شأن له بالبحر، خصمٌ للغابات، مُوردٌ للطعام، محسنٌ للحقول، طبيبٌ للأرض، زارعٌ للأشجار، مُروضٌ للأراضي الجبلية، شخصٌ معتادٌ على الكدح والمشقة.

ما المصارع؟

موتٌ للبيع، قربانٌ يُقدمه سيد العرض، شهيةٌ عارمة، هلاكٌ وفق التعليمات، فنٌ دموي، خطأُ الحظ، موتٌ سريع، قدرٌ يبشر به البوق، موتٌ في متناول اليد دائمًا، نصرٌ سيئ.

ما القارب؟

شيءٌ يتقاذفه البحر، بيتٌ بلا أساس، قبرٌ جاهز، ألواح خشبية ثلاثية الأبعاد، نقلٌ بالرياح، سجنٌ في رحلة مجنحة، مصيرٌ مقيّد في حزمة، ألعوبة الرياح، شيءٌ يطفو فوق سطح الموت، طائرٌ من الخشب، حصانٌ بحري، فخٌ شريرٌ مفتوح، أمانٌ محل شك، موتٌ منظور، مسافرٌ في أحضان الأمواج.

ما البحّار؟

سالكٌ في الأمواج، مبعوثٌ منقول بحرًا، ساعٍ في مهب الريح، رفيق درب الرياح، غريبٌ عن العالم المأهول، هاربٌ من الأرض، مقاومٌ للعواصف، مصارعٌ بحري، شخصٌ غير متيقن من سلامته، جارٌ للموت، عاشقٌ للبحر.

ما الثروة؟

عبء من ذهب، خادمةٌ للملذات، خوفٌ مُفعم بالأمل، جنيُ أرباح بلا معنى، حسدٌ ملازم، مصدرُ إزعاجٍ يومي، شيءٌ غير مستقر، قطعةٌ مرغوبة من البلاء، شيءٌ ممتلئ بالفخاخ الماكرة، رغبة عصية على الإشباع، معاناةٌ ممتدة، مكانٌ مرتفع يمكن السقوط منه، قيمةٌ يمكن حسابها بسهولة بلغة المال، حظ جيد مؤقت.

ما الفقر؟

خيرٌ مكروه، أُم الصحة، عائقٌ أمام الملذات، نمطُ حياةٍ خالٍ من القلق، ملكيةٌ يصعب التخلص منها، مُعلم الاختراعات، مكتشفُ الحكمة، عملٌ لا يُحسد عليه أحد، حيازةٌ غير مُقيَّمة، بضائع غير خاضعة للتعريفة، ربحٌ لا يُحسَب نقدًا، مليكةٌ لا شأن للمخبرين بها، حُسن حظ غير واضح، حُسن حظ مجاني.

ما الشيخوخة؟

شرٌ يسهل الحصول عليه، موتٌ حي، مرضٌ صحي، مصيرٌ في المستقبل، موضوعٌ للضحك مُبتذل، حكمٌ لا إرادي، جثةٌ تتنفس، غريبٌ عن الحب، احتمالية الموت، جثة متحركة.

ما النوم؟

راحةٌ من التعب، نجاحُ الأطباء، تحريرُ المقيدين، حكمةُ اليقظين، ما يُصلي من أجله المرضى، هيئةُ الموت، رغبةُ الكادحين، راحة الملكات الروحية كلها، مهنةٌ رئيسة للأغنياء، ثرثرةٌ فارغة للفقراء، مصدرُ قلق يومي.

ما الموت؟

نومٌ أبدي، انحلالُ الجسد، بُغية المتألمين، خروجُ الروح، خوفُ الأغنياء، رغبة الفقراء، تعطيلُ الأعضاء، فرارٌ من الحياة وضياع ملكها، أبو النوم، يومٌ معلوم لا محالة، تفكك كل شيء.

أخيرًا، وبعد أن قرأ «هادريان» هذه الكلمات، وبعد أن عرف السبب الذي دفعه إلى جعل الصمت ممارسة فلسفية، أمر بإيداع كتبه في المكتبة المقدسة تحت اسم «سيكوندوس الفيلسوف» (Secundus the Philosopher).

المصادر:

Dohrmann, N. B. (2020, December 18). Secundus the Silent and the Vanishing Seduction of Beruriah. Herbert D. Katz Center for Advanced Judaic Studies. https://katz.sas.upenn.edu/resources/blog/secundus-silent-and-vanishing-seduction-beruriah.

Galbi, D. (2014, September 14). Secundus the Silent Philosopher on Men’s Troubles. Purple Motes. https://www.purplemotes.net/2014/09/14/secundus-silent-philosopher/.

Perry, B. E. (Trans.). (n.d.). Life of Secundus the Philosopher (Writing from circa 2nd-3rd century CE). Mountain Man Dot Com, Australia. Web Publications Index. http://mountainman.com.au/essenes/Life_of_Secundus_the_Philosopher.htm.

Wikimedia Foundation. (2023, August 27). Secundus the Silent. Wikipedia. https://en.wikipedia.org/wiki/Secundus_the_Silent.

مقالات ذات صلة:

عن أصل الفلسفة أتحدث

أعظم علماء الإسلام في الفلسفة والتاريخ

حقيقة الفلسفة

* تنويه: الأفكار المذكورة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع.

_________________________________

لمتابعة قناة اليوتيوب لأكاديمية بالعقل نبدأ، اضغط هنا

لقراءة المزيد من المقالات، اضغط هنا

أ. د. صلاح عثمان

أستاذ المنطق وفلسفة العلم – رئيس قسم الفلسفة – كلية الآداب – جامعة المنوفية