ليس خافيَا علينا تلك النظرة فى مجتمعاتنا التى أصبحت فى عداد المسلمات والمشهورات، تلك التى تنظر فيها المرأة لنفسها باعتبارها مخلوقا مساويًا للرجل فى كل شىء، ولأنها ليست بأقل منه شأنا أو قيمة فهى قادرة على أداء جميع ما يقوم به الرجل من مهمات وأعباء، بل تعدت النظرة مسألة الإمكان إلى الضرورة والاستحقاق، حتى باتت كل أنثى ما أن تشب عن الطوق إلا وهى تتصور أن عليها واجبًا مقدسًا فى الحياة والمجتمع يقتضى منها اقتحام غمار كل ما كان من شأن الرجل ومنافسته فى كل ميادينه سواء فى مجال العمل أو حتى فى شكل الملبس وأسلوب الحياة، حتى قلما تجد فتاة لا تشكل تلك النظرة رؤيتها ولا ترى فى ضرورة تحقيق ذلك الوسيلة الضرورية والوحيدة لإثبات تفوقها وجدارتها وأهليتها وانتمائها إلى جنس الإنسان، حتى باتت دعوات المساواة الكاملة بين المرأة والرجل إلى الحد الذى ينادى فيه بأن تتولى المرأة كل الأعمال القيادية مثل إدارة شؤون الدول والمجتمعات والعمل بالمهام التى تحتاج إلى بذل المجهود البدنى الضخم على سبيل المثال، وانتشرت تلك الدعاوى حتى أصبح لها ممثلوها من النساء وأُنفقت الأموال وأقيمت من أجلها المؤتمرات والمؤسسات والجمعيات التى لا هم لها سوى بث تلك المبادئ والقيم والشعارات والدعوة لها، ينظرون إليها من منطلق قيمى ويتعاملون معها وفق مبدأ العدالة الذى يحاول انتشال المرأة المقهورة والمكلومة والمغتصبة الحقوق من الظلم الواقع عليها من جنس الرجل ويرد لها حقوقها المسلوبة وبالتالى كرامتها واعتبارها فى المجتمع..
إن الباحث فى أصل الدعوى التى تقتضى أن يحمل كل من الرجل والمرأة مسؤوليات واحدة وأعباء واحدة وصلاحيات واحدة سيجد أنها نبتت من ثنائية فكرية وفدت إلينا مثل العديد من الأفكار الوافدة من أثر الثقافة والحضارة الغربية والغزو الفكرى الغربي، تلك الحضارة التى عانت فيها المرأة من الاضطهاد والرق والعبودية وتسلط الرجل فى فترات القرون الوسطى ووصفها بأنها جنس أدنى وإنسان ناقص، فما كان منها رغبة فى التحرر من ذلك الأسر ومع مطلع عصور النهضة والحداثة التى بنيت على قيم الليبرالية والتحرر إلا أن انتقلت من النقيض إلى النقيض الذى يتبنى فكر المساواة الكامل بدعوى أن كل منهما إنسان!
فى كتابه “الجمهورية” نشهد أفلاطون وهو يتحدث عن رؤيته للمرأة فيدعى أن للنساء والرجال استعدادات متشابهة بما يمكّن النساء أن يلتزمن بنفس واجبات الرجال ويتمتعن بنفس حقوقهم، مما دعاه إلى أن يدرب كلا من الرجال والنساء على فنون الحرب والمشاركة فى المباريات الرياضية،
حيث كان يرى الفارق بينهما كميًا فقط، يتعلق بالضعف البدنى لدى المرأة وقدرة التحمل، وليس كيفيًا.
على الصعيد الآخر خالف أرسطو رأى أستاذه أفلاطون حيث كان يرى أن استعدادات المرأة تختلف عن استعدادات الرجل وأن الفارق كيفى وليس كميا فقط، كما كان من آرائه أن الفضائل الأخلاقية للرجل تختلف عن المرأة فما يعد فضيلة للرجل قد لا يكون كذلك بالنسبة للمرأة والعكس.
والسؤال محل البحث الذى يفرض نفسه؛ ما الحقيقة فى كل ذلك؟ هل يمكن اعتبار المرأة والرجل واحد فعلاً؟ وهل تم اغتصاب تلك الحقوق من المرأة بالفعل؟ وهل العدالة تقتضى المساواة بين الرجل والمرأة فى كل شىء؟
إن إجابة السؤال الأول تكاد تبدو بديهية لكل ذى نظر، فلو كان الرجل هو المرأة والمرأة هى الرجل بدون أى اختلاف وتمايز بينهما لأصبحا واحدا ولما جاز وصفهما بأنهما اثنان؟ فالقاعدة العقلية تقول أن التمايز فرع الاختلاف، أى أن وجود الاختلاف هو ما يفرض التفرقة والتمييز بين الأشياء ولو انتفى كل فارق بين شيئين وتساويا تمام التساوى لما عنى ذلك سوى كونهما شيئًا واحدًا من الأصل.. لكن ما نراه كحقيقة أن هناك مرأة وهناك رجل مما يعنى بالضرورة أن هناك مائزًا واختلافًا بينهما..
إن تلك النتيجة التى توصلنا إليها بطريقة قياسية عقلية كلية بدون البحث فى جزئياتها هى نفسها ما تؤكدها التجارب والقياسات التجريبية الاستقرائية المنطلقة من البحث فى التفاصيل، فقد أثبتت العديد من الأبحاث العلمية التى قام بها متخصصون – وأكثرهم غربيون – وجود الاختلافات بين الرجل والمرأة على الجوانب الفسيولوجية والنفسية وكيف أن ذلك هو ما أسس وساهم فى وجود طبيعة معينة فطرية لكل منهما تتأثر بها سلوكياته ويتحدد من خلالها قدراته ووظائفه فى المجتمع، فعلى سبيل المثال أثبت التشريح الفسيولوجى كيف أن نمو عضلات الرجل وقوته البدنية أكثر من المرأة، كما أنه أقل مقاومة للأمراض ورئته أكثر استيعابًا للهواء وضربات قلبه أقل، فى حين وُجد أيضًا على الجانب النفسى ميل الرجال إلى الرياضات العنيفة والأعمال الحركية مثل القتال والمبارزة وأنهم أكثر إثارة للصخب، فى حين أن النساء عادة ما تميل إلى الهدوء والسلم، وفى الوقت الذى لا يتورع فيه الرجل عن القيام بأعمال قاسية أو خشنة نجد المرأة تتجنب استعمال الخشونة مع نفسها أو مع الآخرين وهو ما يظهر فى حالات الانتحار على سبيل المثال، أيضًا فالرجل يتمتع بثبات انفعالى أكثر من المرأة التى تميل إلى سرعة الانفعال والتأثر والتقلب فى المشاعر، حتى على مستوى علوم الاستدلال والمسائل العقلية الجافة نجد أن المرأة أقل من الرجل وتتميز فيما يرتبط بمهارات الذوق والعاطفة مثل الفن والرسم والإبداع.. بالتأكيد كل تلك النتائج لها استثناءاتُها ولكنه لا يمنع كون تلك المواصفات هى الأعم الأغلب فى كل جنس وهو ما تميل إليه الفطرة..
إن الشق الآخر فى محاولة الإجابة على الأسئلة السابقة يتطلب أيضا من الباحث عنها قبل كل شىء معرفة واقعية بمفاهيم العدالة والحقوق بشكل عام قبل الخوض فى مفاهيمها الجزئية المتعلقة بحقوق المرأة بشكل خاص.
بداية فإن العدالة هى إعطاء كل ذى حق حقه، وهو ما يحيلنا بالضرورة إلى البحث وراء قضية الحقوق والواجبات، ومحاولة الإجابة عن سؤال: كيف يتم معرفة الحقوق؟ هل هى قضية طبيعية أم اعتبارية؟ بمعنى هل ما يمكن تسميته أنه حق لإنسان ما، هل هو مرتبط بحقيقته الإنسانية الذاتية أم هى قضية تنشأ من اعتبار المعتبر لها ورغبته وهواه، فإذا شاء أن يعتبر قضية ما حقًا أصبحت كذلك وإذا لم يشأ يسقط ذلك الحق عنه؟
والحقيقة البسيطة التى يمكن إدراك منطقيتها بقليل من التأمل أن قضية الحقوق لا بد لها من مرجعية ثابتة ومطلقة تضفى بالمثل صفة الثبات على ما يتم اعتباره حقًا بحيث أنه لا يتغير ولا يسقط ولا يتحول حسب الظروف أو الرغبات أو سياسات الدول أو تأثير ثقافات معينة فى المجتمع، لذلك فإن قضية الحقوق ليست قضية اعتبارية نسبية بل هى مرتبطة بحقيقة الخِلقة التكوينية والذاتية للفرد -وهذا هو عين العدالة- فعلى سبيل المثال لا يمكن افتراض أن الطيران حقٌ مشروعٌ للأسماك ولا أن السباحة هى مسؤلية الطيور، فقط لأن مؤهلات وطبيعة التكوين وخلقة كل منهما تفرض عليهما وتؤهلهما لأداء وظيفة معينة تفرض عليهم حقوقًا مرتبطة بها تحديدا وليس غيرها، كذلك هو الحال بالنسبة للرجل والمرأة، فإذا سلمنا بوجود اختلافات جزئية ذاتية بينهما – وإن تفرعت من أصل واحد هو الإنسانية – أمكن التوصل إلى ضرورة أن يكون لكل منهما حقوقًا معينة مرتبطة بطبيعتهما الذاتية والتكوينية والخلقية تؤهل كلا منهما لأداء وظائف معينة وبالتالى يفرض على كل منهما حقوقًا قد تختلف عن الآخر.
يتحدث بعض المفكرين عن أن كيفية تحديد الحقوق وشكلها مرتبط بمسألة الخلق، فالحقوق الطبيعية مصدرها أن للطبيعة أهدافا، ولتحقيق هذه الأهداف أودعت في الموجودات استعدادات معينة ومنحتها على أساسها حقوقا معينة، وهو ما يجعل للإنسان على سبيل المثال حقوقًا ليست للحيوان، فقانون الخلقة هو الذى يضع الأطر الطبيعية ويحدد نظام الحقوق والواجبات للأفراد. وكما أن الحياة الاجتماعية الأسرية هى أمر طبيعى وفطرى فلم يحدث أن وجد مجتمع منذ أقدم عصور التاريخ عاش فيه الإنسان منعزلًا أو كان الرجل والمرأة فيه منفصلين، صحيح ربما لم يكن هناك قانون إلهى أو وضعى ينظم العلاقة بينهما – كأن يتزوج الأخ أخته مثلا – لكن كان هناك دائمًا وأبدًا قانونًا طبيعيًا هو قانون التزاوج. وأن الناظر لحكمة وجود الفوارق بين الرجل والمرأة سيجد أنها ليست إلا من أجل توثيق العلاقات العائلية بين المرأة والرجل وتقوية أساس الوحدة بينهما. ومن أجل أن توزّع المسؤوليات وتحدّد لهما الحقوق والواجبات الأُسرية. وإن الهدف من إيجاده لهذه الفوارق شبيه بالهدف الذي من أجله أوجد الفوارق بين أعضاء الجسد الواحد، فهو حين عين مواقع العين والأذن واليد والرجل والعمود الفقري، لم يكن يفضل عضوا على آخر ويحب عضوا ويكره آخر.
إن وجود الفوارق لهو دليل على التنظيم الحكيم والدقيق للعالم، وهو نموذج واضح على غياب الصدفة في سير الخلق، وأن الطبيعة لا تجري أحداثها بصورة عشوائية، ودليل واضح على أن موجودات الكون لا يمكن تفسير وجودها بدون اللجوء إلى قانون “العلّية” أن لكل معلول علّة،
فمن أجل تحقيق هدفها وحفظ النوع، يستدعي بقاء النسل تعاون الجنسين على إنجاز هذا العمل،وهو ما يطرح فكرة وحدتهما واتحادهما، ويستطيع أن يستبدل الأنانية وحب الذات بالخدمة والتعاون والتسامح والإيثار، ويدفعهما إلى أن يسعيا إلى الحياة المشتركة.
عند هذه النقطة من البحث يمكن لنا الاعتقاد الواضح بأن المرأة لا يمكن أن تكون مساوية تماما للرجل فى الحقوق والواجبات، فهما يتحدان فيما كان مشتركًا بينهما مثل ما يتعلق بحقوق الإنسانية عامة، ويختلفان فيما كان متعلقًا باختلافاتهما الجزئية الخلقية، وأن مقتضى العدالة أن تطالب المرأة بما هو حق لها وليس حقًا لغيرها، والباحث المتجرد الذى يشاء أن يخوض فيما بعد فى مسألة حقوق المرأة الجزئية ينبغى عليه استكمال المعرفة فى طبيعة الاختلافات الجزئية بينهما ومن ثم يمكن له الوقوف على منظومة الحقوق العادلة لكل منهما..
إن دور المرأة فى التكامل الإنسانى أكبر من الرجل ولا ينبغى عليها التخلى عنه وإهماله بدعوى المساواة اللامنطقية، فالقضية قضية تناسب لا نقص وكمال من أجل بناء حياة مشتركة، ربما كان ذلك يفسر الكثير مما جاءت به الشرائع السماوية التى وضعت نظامًا للحقوق والواجبات، قد يظن من ينظر إليه بشكل سطحى منتزع من خلفيته المعرفية الواقعية المجافاة والظلم، فى الوقت الذى ترى فيه النظرة المتعمقة المتجردة كل التكريم واستحقاق العدالة، فالنظرة العاقلة التى تدرك كون الخالق أكثر معرفة وعلمًا بطبيعة خلقه تدرك أنه كان لا بد لهذا الخالق إذا كان حكيما وعادلا أن يصيغ لهذا الخلق ما يتناسب مع طبيعته ومؤهلاته من حقوق وواجبات تضمن التكامل فى المجتمع لكى يصير إلى تحقيق الكمال والفضيلة..
يقول الله عز وجل (وَلَا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ ۚ لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا ۖ وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ ۚ وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ ۗ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا )