فن وأدب - مقالاتمقالات

حاجتنا إلى النقد الأدبي الخلَّاق.. رؤية وتجربة – الجزء الأول

نحن في حاجة ماسة إلى العقل النقدي، فبه وحده يمكن لنا أن نتقدم على درب الإبداع، لأن المسايرة والمجاراة والمجاملة والمدح الأجوف والمداهنة والملاينة وصولا إلى النفاق ليس بوسعها جميعا أن تبصرنا بثقوب يجب أن نسدها، وعيوب من الضروري تلافيها، وإبطاء لا بد من تسريعه، واعوجاج علينا دفعه إلى الاستقامة.

لكن النقد له شروط، يجب أن يلتزم بها من يقوم به، قبل أن يطالب من ينتقده بأن ينصت إليه، ويمعن النظر فيما أبداه من ملاحظات، ويتعهد بأن يستفيد منها في قابل أعماله أو أقواله.

وهذه الشروط لا يضعها الناقد نفسه، وإن كان من حقه أن يضيف إليها ويبدع فيها فيصير نقده إبداعا جديدا، إنما هي تلك التي توافق عليها النقاد والمفكرون، وتفهمها الكتاب والمبدعون، وحوتها تصورات ورؤى ونظريات واتجاهات موزعة بين النقد الفني للنص من داخله وأي عوامل خارجية تؤثر فيه، يدرسها علم اجتماع الأدب وعلم اجتماع المعرفة وغيرهما من العلوم التي تتعلق بالنظر في سياق النص.

الفرق في النقد بين “المعقب” و”المتعقب” و”المعاقب”

وهنا علينا أن نفرق في النقد بين “المعقب” و”المتعقب” و”المعاقب”، فالأول يدخل إلى “النص” أو “المكتوب” الذي يريد التعقيب عليه بتجرد، ملزما نفسه بإنصاف يليق بقاض عادل، ومنصتا طوال الوقت إلى صوت ضميره، ثم يعمل فيه ما درسه من أدوات النقد، ويخلص في هذا على قدر الاستطاعة، مدفوعا برغبة في الإجادة والإضافة في ظل الإيمان بأن عين الناقد البصيرة من واجبها أن تعمل طيلة الوقت على دفع عربة التفكير والتعبير والتدبير إلى الأمام.

أما المتعقب فهو الذي يدخل إلى النص راغبا منذ البداية في أن يحصي عثرات الكاتب، ويعدد له مواضع الخلل والزلل، ويعتقد أن هذه هي وظيفته الأساسية، دون أن ينظر في الإيجابيات التي ينطوي عليها، ويهمل ما عليه من واجب في النظر إلى النص بعمومه، ليعرف مواطن جماله الفني، ومدى إحكام بنيته، ومكانته بين النصوص الأخرى، وقدر ما فيه من تجديد ضمن المنجز الإبداعي الراهن.

اضغط على الاعلان لو أعجبك

أما المعاقب فهو شخص يستعمل أدوات النقد في الهدم، داخلا إلى أي مادة يريد أن يدلي برأيه فيها وهو يحمل غلا لصاحبها، ورغبة في إيذائه، حسدا من عند نفسه، أو لحساب آخر ينافسه، أو لاعتلال طبيعي فيه، يجعله يتوهم أن بيده أن يعلي من قدر هذا، ويحط من قدر ذلك. وبقدر ما يزيد الصنف الأول في حياتنا الأدبية والفكرية بقدر ما تولد فرصة للتجويد والتطوير، ليس في الكتابة وحدها إنما في أي عمل في حياتنا مهما كان ضئيلا.

على الجانب الآخر

من الضروري أن يتسم كل من ينتج عملا إبداعيا _معنويا كان أو ماديا_ برحابة صدر وسعة أفق حيال النقد، فلا يغضب إن وضع أحدهم عينه على نقص، ولا يشمئز إن قيل له عن تقصير، وليجعل نفسه مأخوذا دوما بحكمة تقول: “طوبى لمن أهدى إليَّ عيوبي”.

فبعض النقاد يفزعهم غضب الكتاب إن قالوا فيهم شيئا لا يعجبهم، فيجنحون إلى المسايرة، وكأنهم ينحنون لعاصفة ما كان يجب أن تهب أبدا، لو فهم كل طرف حاجته إلى الآخر.

ولا يعني هذا أن الناقد عليه في التزامه بالموضوعية والنزاهة أن يكون فظا غليظ اللسان والقلم، فرب كلمة أحد من سيف، ولفظ أقسى من ضرب البدن، فالنجاعة والحصافة أن يقال كل كلام _حتى لو كان في خصام مع النص_ بطريقة لا تجرح ولا تقتل،

وهذه مسألة يحتاج فيها الناقد إلى كظم غيظه إن اغتاظ، وكبح جماح نفسه إن هاجت، وإن كان الأمر لا يحتاج منه إلى غيظ أو هياج، إنما انضباط في القول والكتابة وإطلاق كل قدرة إلى النقد الأدبي المبدع.

(ونكمل الأسبوع المقبل إن شاء الله تعالى)

اقرأ أيضاً:

كيف نستفيد من النقد؟

الهروب من النقد!

الناقد والمبدع والحرب الباردة

د. عمار علي حسن

روائي ومفكر مصري