قضايا شبابية - مقالاتمقالات

ثقافة التريند!

وسائل التواصل الاجتماعيّ اليوم متن الحياة، ليس لأننا نقضي معها وقتًا طويلًا فقط، وإنما لأنها تؤثر على شرائح واسعة من المستخدمين لها، وأنت بلا شك تعرف كيف خَلقت هذه الوسائل ما يصح وصفه بـ”ثقافة الترند” (trend) وجعلتها مادة السّجال اليوميّ، بما تفرضه من قضايا –جادة أو غير جادة– تُجْبر المتابعين والمهتمين على الانخراط فيها والتدوين عنها.

المشكلة هنا أن طبيعة الترند لا تسمح بتعمق الفكرة المطروحة، فالترند يدفعك إلى اتخاذ موقف بأكثر مما يطلب منك الفهم والتدقيق، فضلًا عن البحث والتحقق، الترند يطلب منك الانحياز الأحادي: “مع أم ضد”، “صح أم خطأ”، فــ”الترند” له طبيعة خاصة، فهو: يوميّ واختزاليّ وموقفيّ، ولا يمنح أحدًا وقتًا للتفكير أو المراجعة، وما إن يُطرَح أمامك على الشاشة الزرقاء يحفزك على الانشغال به، ويحثك على إبداء رأيك بخصوصه هنا والآن.

الذي حدث أن الوعي العام قد وقع –بكل أسف– في قبضة الترند، ولا أحد يعرف لماذا قد يصبح حدث ما أو عنوان ما “تريندًا”، فقد يكون الترند حدثًا كبيرًا على المستوى العام، وقد يكون موقفًا عابرًا لشخص عابر التقطته الكاميرا وجعلته في مركز الضوء!

كيف تجرفنا ثقافة الترند؟

لا أحد يمكنه الوقوف على السبب المباشر الذي يجعل أمرًا ما يقفز من دائرة المعتاد والعابر ليشغل الرأي العام على مواقع التواصل، وتُكتب فيه أو بشأنه ما لا يُحصى من التدوينات، بالتأكيد يمكننا فهم الأمر فيما يتعلق بالقرارات الكبيرة التي تتصل بحياة الناس ومعاشهم مباشرة، أو تتصل بشرائح واسعة منهم، مثل قانون الضريبة العقارية أو المصالحة على مخالفات البناء، أو ما يتعلق بالموقف الاقتصادي والسياسي من قضية دعم الطبقات الأكثر احتياجًا، وقل الأمر نفسه عن القضايا الدينية ذات الطابع العام، مثل وقوع الطلاق الشفهي من عدمه، إلخ.

لكن ما لا يمكن فهمه أن يُسلَّط الضوء على تصريحات عادية، كأن تكشف فنانة عن استعدادها للتبرع بأعضائها بعد موتها، أو أن تؤدي راقصة غير معروفة رقصة خاطفة لا تتجاوز الدقيقة الواحدة في محل كوافير، محض رقصة عفوية لا غاية من ورائها سوى التعبير عن الشعور بالبهجة، فيصبح هذا المشهد “تريندًا” يشغل الناس، وتنتقل به الراقصة من الصف الثاني أو الثالث إلى نجوم الصف الأول!

اضغط على الاعلان لو أعجبك

قد يتصور البعض أن الترند يؤدي ما كانت تؤديه برامج “التوك شو” الفضائية في نهاية التسعينيات والعشرية الأولى من هذا القرن، وهذا تصور يُجانبه الصواب، فبرامج “التوك شو” –رغم كثير مما يمكن أن تأخذه عليها أو على ثقافة بعض مقدميها– أكثر رصانةً وعمقًا، فهناك جهة واضحة تنتجها وتُعِد لها، ويمكنك –أنت المتلقي– أن تعرف أغراضها ومراميها، وقد تتفق أو تختلف معها، كما أنها جيدة بقدر ما تناقش من قضايا مؤثرة على نحو عميق، وهي تفعل ذلك –غالبًا– باستضافتها للمختصين والمهتمين، وهي قبل ذلك وبعده أكثر هدوءًا، وقد تجد لديك الفرصة للتفكير والمراجعة إن أحببت.

ثقافة الترند بين الأداة والتأثير

هذا كله لا يمكن مقارنته بثقافة “الترند” و”الهشتاج” الذي يومض ثم يتلاشى، يتحدث فيه الجميع إلى الجميع، يتحدث الذي لديه معرفة بالموضوع ومن ليس لديه به معرفة، فلا أنت استبصرت منه شيئًا خفيًّا، ولا أرحت عينك من بريقه اللّامع، لقد أدى ذلك الوضع إلى أمرين على درجة كبيرة من الخطورة:

الأول: أن الترند يرسّخ “حالة ثقافية” زائفة، إذ ينشغل الناس بأمور كثيرة لا فائدة منها، أو يقدم ثقافة سطحية قشرية، فلا يوجد وعيّ ملموس يمكن البناء عليه والتقدم به نحو غاية محددة، كما أنه –أي الترند– لا يمنحنا الفرصة لمناقشة الموضوع المطروح أو تتبع فكرته والنظر فيما يمكن أن تنتهي إليه.

فالترند –حتى لو كان جادًا يشير إلى قضية حقيقية– شديد الخداع، إنه يختزل أفكارًا مهمّة في شعار أو عنوان محدود، يوجّه عقلك وجهة معينة، تهيمن عليك روح الجماعة وسطوة التفكير بواسطتها، فلا فرصة لديك للتفكير المستقل أو المراجعة، فالترند يبرق ثم يختفي سريعًا ليفسح المجال للذي يليه، وقد لا يستغرق الترند الواحد أكثر من يوم أو بعض يوم!

الثاني: يترتب على سابقه، وخلاصته أن الترند يدفعك دفعًا إلى التحيز أو التخدنق دون تفكير، وكل تحيز انتصار للذات ودفاع عنها بأكثر مما هو دفاع عن وجهة النظر، وكثيرًا ما تستنزف تحيزاتُنا منظومةَ القيم الأخلاقية والاجتماعية، والمفارقة أن ذلك يحدث في الوقت الذي تظن فيه أنك بموقفك “الترينديّ” المنحاز تدافع عن هذه القيم!

 ثقافة الترند كيف تغير عالمنا؟

تأكيدًا لفكرة التخندق هذه فقد أصبحنا نتوقع موقف صاحب هذا الحساب أو تلك المنصة من “الترند” قبل أن يدلي فيه بدلوه أو قبل أن يفصح عن رأيه. هذا يعني أنك صرت على معرفة بخندقه الفكريّ والثقافيّ والحياتي عامة، وما الذي يعنيه هذا؟ يعني أننا لا نتحاور بما يكفي، وأن قدرتنا على التفكير ومساءلة قناعتنا لا تشغلنا بما يكفي، وأن نسبية “الحقيقة” ليست مطروحة بما يكفي، وأن “التريند” يدعِّم هذا النزوع الأصوليّ بأكثر مما ينبغي!

مهما كان الرأي في الترند وثقافته، ومهما كانت الجهة التي تقف خلف بعض التريندات، إلا أنه قد بات –الآن– واقعًا معيشًا وجزءًا من سلوكنا اليومي، وقد لا يكون انتقاده –في ذاته– الحل الأمثل، بقدر ما يجب تفكيك ما يضمره من أنساق فكرية قد تكون شديدة الرجعية، وهي بالتأكيد آخر ما نرجوه لأنفسنا ولمجتمعاتنا!

مقالات ذات صلة:

المحتوى العربي وهوس الشهرة

الأخبار الرائجة (Trend)

حقائق وغرائب خطره حول العالم

* تنويه: الأفكار المذكورة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع.

_________________________________

لمتابعة قناة اليوتيوب لأكاديمية بالعقل نبدأ، اضغط هنا

لقراءة المزيد من المقالات، اضغط هنا