تهذيب النفس – كيف تتهذب النفس البشرية؟ ( الجزء الثاني ) – الملكات الأخلاقية
انتهينا في المقال السابق إلى أن للإنسان قوى مدركة أربعة هي الحس والخيال والوهم والعقل النظري، وقوى محركة ثلاثة هي الشهوة والغضب والعقل العملي. وإلى أن كمالات الإنسان الحقيقية هي كمالات عقله وروحه، والتي تنحصر في معرفة الحق وعمل الخير. وأنه لمعرفة الحق عليه بالبرهان، ولعمل الخير عليه برياضة نفسه وتهذيبها ومجاهدتها؛ والتي تتم بتحكم العقل العملي في باقي القوى المحركة أي الشهوة والغضب. وعندما يقوم الإنسان برياضة نفسه حتى يكتسب الأخلاق، أو الملكات الأخلاقية.
الملكة الأخلاقية
والملكة هي هيئة نفسية راسخة يتحرك الإنسان في سلوكه طبقًا لها دون تردد أو رويّة أو تأني. فالسلوك الحسن إن نتج عن الإنسان بعد تأني وتردد وروية فهو ليس خُلقًا ثابتًا في نفسه بعد أو ليس ملَكَة؛ بل هو حالة عارضة. ولكن عندما يواظب على هذا السلوك ويكرره حتى يصبح تلقائيا عنده؛ فقد اكتسب هذه الملكة الأخلاقية ورسخت فيه.
وعندما تسيطر القوة العاقلة على جميع قوى النفس والجسد تماما، يكتسب الإنسان ملكة أخلاقية جامعة شاملة تسمى “العدالة”.
فالعدالة الحقيقية هي حصول الهيئة الاستعلائية للقوة العاقلة على الجسد، وهي تؤدي أيضا للعدالة الأخلاقية والفقهية. والعدالة الأخلاقية هي اتصاف الإنسان بأمهات الأخلاق، أي العفة والشجاعة والحكمة.
فضائل القوى المختلفة
والعفة هي فضيلة القوة الشهوية، الناتجة عن تحكم القوة العقلية في الشهوة وتحقيقها العدل والتوازن فيها. أما الشجاعة فهي فضيلة القوة الغضبية، والناتجة عن تحكم القوة العقلية في الغضبية وسيطرتها عليها بالعدل. وأما الحكمة الأخلاقية فهي فضيلة القوة العاقلة والتي تؤدي إلى أن يتصرف الإنسان في سلوكياته وحياته العملية كلها بمقتضى العقل العملي.
أما العدالة الفقهية فهي الهيئة النفسية التي تدفع الإنسان إلى اجتناب المحرمات الشرعية والتزام الواجبات الفقهية، وهي المعروفة في لسان الشرع باسم “التقوى”.
ولاكتساب أي ملكة أخلاقية حسنة او التخلص من أي ملكة سيئة؛ يتم ذلك على مستويين أيضًا، الأول هو مستوى الإدراك والمعرفة، والثاني هو مستوى السلوك. فكل خلق له أسباب معرفية وأخرى سلوكية.
العلاج المعرفي والسلوكي
فالعلاج المعرفي يكون بأن يعرف الإنسان مخاطر العادة السيئة عليه، ومميزات العادة الحسنة له. ويكتسب الأسباب المعرفية والإدراكية للخلق الحسن، ويزيل أسباب الخلق القبيح. مثل الشخص الذي يصور له جهله أنه قوي عظيم فينعكس ذلك على أخلاقه بالكبر، ولو عرف حقيقة نفسه وضعفها وفقرها لساعد ذلك على نزع الكبر. ومثل الشخص الذي يتصرف بكسل وإهمال في حياته، إن علم العواقب الوخيمة لذلك، وعلم العواقب الحسنة لعكسه يساعد ذلك على أن تنبعث نفسه لترك ما هو فيه وطلب ما فيه الخير له.
والعلاج السلوكي يكون بعمل السلوك الحسن وتجنب السلوك القبيح، والمداومة على ذلك باستمرار وفي الظروف المختلفة؛ حتى يكتسب الإنسان ملكة راسخة في النفس، ويصبح هذا السلوك الحسن عنده عادة، وهو أمر يكون صعبًا في البداية، لكن بالاستمرار يصبح أسهل وأسهل.
فالخلاصة أن تهذيب النفس بشكل عام يكون بتحكم العقل في باقي قوى النفس والجسد حتى يسيطر عليها ويصل بها للتقوى وللعدالة، فالرياضة تقوم بالتدريج بترويض النفس الحيوانية (أي القوى الشهوية والغضبية) للنفس العاقلة تدريجيا.
مراتب النفوس
فالإنسان إن غلبت فيه النفس الحيوانية الشهوية والغضبية؛ صارت نفسه أمّارة بالسوء، حيث أن الشهوة والغضب بلا لجام العقل يأمران بالسوء، ويوردان صاحبهما موارد الهلاك، فيصبح كالأنعام بل أضل سبيلًا.
وأما إن كانت الغلبة للعقل؛ أصبحت النفس مطمئنة، لا تصدر عنها الأفعال من قوى مختلفة، بل هي مطمئنة لمبدأ واحد وقوة واحدة هي القوة العاقلة، مؤتمرة بأمرها ومنتهية بنهيها. فتجذبها إلى الأمور القدسية الشريفة.
وبين هذا وذاك حالات ومراتب حسب سيطرة كل جانب، فيطيع الحيوانية تارةً، فتتحرك العقلية وتلومه؛ فتكون نفسه لوامة. [1]
وحيث أن القوى المحركة تتحرك طبقا للإدراكات التي تدركها القوى المدركة كما سبق في المقال الأول؛ لذلك يجب أن يبدأ تهذيب النفس بالتحكم في الإدراكات المختلفة والقوى المدركة المختلفة.
فمثلا عندما يرى الإنسان طعاما شهيا ويدركه بنظره، تتحرك شهوته إليه، وتعمل على تحريك جسده إليه، فإذا ما أراد الإنسان أن يمتنع عن هذا الطعام فعليه أن يصرف عنه بصره، بل ويصرف عنه خياله أيضا.
فتهذيب النفس يكون بسيطرة العقل على الإدراكات المختلفة، فينشأ عنه سيطرته على الحركات المختلفة، حتى تصبح النفس في النهاية بعد ترويض مطمئنة في حركتها لتوجيهات العقل العملي.
هذا عن تهذيب النفس بشكل كلي، ونتابع بشكل أكثر تفصيلا في المقال القادم.
كيف تتهذب النفس البشرية .. الجزء الثالث
لقراءة الجزء الأول من المقال أضغط هنا
[1]بتصرف؛ كتاب “الإشارات والتنبيهات”، لأبي علي ابن سينا، مع شرح نصير الدين الطوسي، تحقيق الدكتور سليمان دنيا، دار المعارف-القاهرة، سلسلة ذخائر العرب العدد 22، الطبعة الثالثة، القسم الرابع.
اقرا أيضاً: