مقالات

تسوس الأسنان.. وتسوس العقل!

عيادة طبيب الأسنان من أكثر الأماكن التي أكره زيارتها، ومع ذلك يضطرني الألم أحيانا إلى زيارتها صاغرا، والاستسلام على أريكة جهاز الكشف وقد فتحت فمي على مصراعيه يعبث فيه الطبيب بيديه وأدواته كيفما شاء! في إحدى زياراتي الأخيرة لهذا المكان الموجع، أراد الطبيب أن يُخفف عني وطأة القلق، فاستغرق أثناء الكشف في حديث مُمل عن تسوس الأسنان وأسبابه وعوامل الوقاية منه،

موضحا أن التسوس عملية بيولوجية كيميائية تحدث في الفم وتتطور عبر فترة قد تمتد لعدة شهور أو سنوات، حتى وإن بدت الأسنان والضروس من الخارج سليمة وبيضاء، ونتيجتها انهيار الأسنان والضروس وتشوه الفم في معية الألم اللامُحتمل. وضرب مثلا لذلك بقطعة الخشب التي يأكل السوس جوفها عبر فترات زمنية طويلة تبدو فيها متماسكة، فإذا ضغطت عليها وجدتها هشة وانهارت كالتراب!

ماذا عن تسوس العقل؟

أثناء ذلك كان قد غرس إبرته في لثتي مفرغا ما بها من مُخدر، وأمرني بالانتظار لبضع دقائق في صالة الانتظار كي يستكمل حشو ضرسي، ويبدو أن للمُخدر تأثيره الفوري الذي أنكره الطبيب، إذ انتقل بي عقلي من تأمل تسوس الأسنان إلى التفكير في تسوس العقل، نعم.. ذلك التسوس الذي أصاب العقل العربي في صورة فساد ينهش في بنيانه من الداخل ليغدو هشا مؤلما آيلا للسقوط! ولم لا؟ أليست الرشوة والمحسوبية والمظهرية الكاذبة نوعا من التسوس؟

أليس الجهل واستغلال النفوذ وعشق المناصب نوعا من التسوس؟ أليس إيثار المصالح الشخصية وتردي التعليم والبحث العلمي وانتشار الفقر والمرض نوعا من التسوس؟ أليس انتفاء العدالة وتقديس ولاة الأمر والعبث بالقيم والطعن في الدين نوعا من التسوس؟ نعم هو تسوس، بل هو أخطر أنواع التسوس، لأن تسوس العقل يعني تسوس الثقافة والتعليم والحاضر والمستقبل، يعني الألم الذي نعايشه الآن محليا دوليا، يعني باختصار تسوس الدولة!

تسلسلت تأملاتي الموجوعة لتقودني إلى المقارنة بين التسوس والسياسة والوسوسة؛ ثلاثية متشابهة جعلتنا مجرد وصفات للطبخ في قدور حكوماتنا وقدور العالم.. نحو 377 مليون نسمة (عدد السكان في الوطن العربي) أي 377 مليون عقل، أي 754 مليون يد، ومع ذلك أكثرهم فقراء، كثير منهم أميون وجهلاء، وكُلهم على المقاهي والإنترنت خبراء، أفسدوا تاريخهم، ومزقوا بالخلافات والانقسامات حاضرهم، أغنياؤهم دائمو الظمأ إلى أقواتهم، وبسطاؤهم قليلو الحيلة، سيوفهم ألسنتهم، وضجيجهم يفوق أعمالهم، والفقر يُطارد أحلامهم!

اضغط على الاعلان لو أعجبك

تسويق الكذب السياسي

يُحكى أن ثمة مسؤولا كان أعرجا، ويرى بعين واحدة، وفي أحد الأيام دعا بعض الرسامين ليرسموا له صورة شخصية، بشرط ألا تُظهر عيوبه، فرفضوا جميعا؛ إذ كيف يرسمونه بعينين وهو لا يملك سوى واحدة؟ وكيف يصورونه بقدمين سليمتين وهو أعرج؟ وفي خضم هذا الرفض الجماعي جاءه رسام مُعلنا تصديه للمهمة، وبالفعل رسم للمسؤول صورة جميلة وفي غاية الروعة، فماذا فعل؟

تصور المسؤول واقفا وممسكا ببندقية صيد (وبالطبع كان يغمض إحدى عينيه ويحني قدمه العرجاء)، وهكذا رسم صورة المسؤول بلا عيوب، وانتقل ببساطة من وسوسة العقل الذي أصابه التسوس إلى تسويق الكذب السياسي!

حين تستسلم مُجبرا لطبيب الأسنان ستدرك قطعا في خضم الألم والقرف أن الحقيقة هي ما لم تبح به، بل وتخشى البوح به، هي تلك المشاعر التي ظلت حتى الآن حبيسة صدرك، هي تلك الأفكار التي احتفظت بها دوما لنفسك.. فقط لنفسك، هي ما تعرفه عن نفسك وعن الآخرين ولا تنطق به، هي تلك الكلمات التي تكاد تنفجر بداخلك حين تلقى أشخاصا تقرأ الكذب والوقاحة في عيونهم وتجد نفسك مضطرا لاصطناع ابتسامة هي بدورها كاذبة..

هي تلك المعاني المنزوية خلف ما تكتب، المعتصرة ألما خلف ما تقوم به من أعمال تشعر بتفاهتها.. هي ذلك الخنجر المرشوق في قلبك وعقلك وأنت تمارس يوميا طقوس الحياة في العالم العربي!

تواصلت تأملاتي ولم يقطعها سوى نداء الممرضة لملاقاة الطبيب!

اقرأ أيضاً:

الكيتش والحمقري.. في دفء الأكذوبة!

الصفات الجاهلية الخمس للإنسان المعاصر

بطون تكاد تنفجر من الجهل!

* تنويه: الأفكار المذكورة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع.

أ. د. صلاح عثمان

أستاذ المنطق وفلسفة العلم – رئيس قسم الفلسفة – كلية الآداب – جامعة المنوفية