مقالات

زحف الحقيقة

عاش العالم كله تقريبًا إبّان النصف الثاني من القرن العشرين، في أكبر حالة من الكذب والتضليل والتزييف لكل ما هو حق، ولكل ما هو حقيقي، حالة لم يشهدها تقريبًا النوع الإنساني، من بعد حالة الخلافات الدينية بين العلماء في الأديان كلها بحجم أو بآخر، وسننتبه هنا إلى أن القرآن أشار إليها بوضوح، على أنها ليست مسألة بحث عن الحق، في مستودعه الحق.

فقط كانت حالة من حالات البغي، بين أطراف تلك الخلافات، البغي الذي يبدأ من “حقد النفوس المِلحاح” بتعبير أمير الشعراء وينتهي بالقتل والدم، والاستعانة بالسلطة في قهر الخصوم وحملهم على قبول ما لا يريدون بالقوة.

هذا ليس موضوعنا هنا على أية حال، لكن لفت نظري حالة الإعراض والتعامي عند كثيرين، حين يذكر النص القرآني هذا الموضوع بكل وضوح.

وقد كان من المفترض أن يكون العلماء أول من ينتبه إليه، ويقللوا من مباحثهم، والغوص غير المفيد وغير المطلوب في تفاصيل وجزئيات لا تقدم للواقع الإنساني ما يساعد البشر على اجتياز “اختبار الحياة” بيسر وتيسير مع أقل قدر من المعاناة.

بل كان يجب عليهم مراعاة التوازن بين التخصص في كتاب الله المسطور “القرآن”، وكتاب الله المنظور “الكون”، وهما “قلب الحقيقة” في إدراك الإنسان لذاته ومعنى وجوده، بل وكيفية هذا الوجود.

اضغط على الاعلان لو أعجبك

لكن للأسف كانت المكانة الاجتماعية تتحقق أكثر مع التخصص في العلوم الدينية، فكان الإقبال عليها بكثرة ملفتة للنظر، وبما يتجاوز كثيرًا حاجة الناس للمعرفة المطلوبة بالمناسك والعبادات، في دين أخص خصائصه العلاقة المباشرة بين الخالق والمخلوق.

إن الغاية من التعاليم كلها الشعور الدائم بكل يقين أن الله قريب وهو يسمعني ويراني، وهو بالطبع شعور متدفق بالأفكار الصحيحة والأفعال الصحيحة والمواقف الصحيحة.

الغرب لم يحقق سيادته المستمرة على العالم حتى الآن، إلا حين نظر في العلوم الكونية، فكانت الثورة الصناعية التي قلبت موازين القوة رأسًا على عقب.

وكل ما يخص ذلك من جدليات وفلسفات بشأن “السعادة والألم والموت” ما هو إلا أفكار تروح وتجيء من تكرار إلى تكرار، كما ذكر لنا المؤرخ والمفكر الإنجليزي إريك هوبسباوم (ت/2012م) في ثلاثيته الشهيرة عن القرن التاسع عشر: عصر الثورة/ عصر رأس المال/ وعصر الإمبراطورية.

ولأن ذات الإنسان هي شاغله الشاغل، فحدثت حالة تعظيم وتضخيم للأدوار مصحوبة بشنة ورنة. وقراءة السير الذاتية والشخصية لكثير من مفكرى الغرب، ولدينا أيضًا! ستكشف لنا كثيرًا من “الهواجيص”
التي كنا نظنها بابل القديمة!

كلام الشاعر أ.ف.نجم رحمه الله عن “الشيخ شمهورش” “اللي راكب على الكوديا وهات يا مواكب، وبواقي الزفة عناكب، ساحبين على حسب الصيت” صحيح تمامًا، وأوسع كثيرًا من كونه تعليقًا على حدث معين.

ذلك أن قابلية الإنسان للاستهواء والاستخفاف عالية جدًا، ومن معالي المعالي في الإسلام العظيم هذا الشعاع النافذ الذي يخرج من أنوار الفهم، ناظرًا به المسلم الصادق في عيون الدنيا والناس قائلًا في صمت: يا نهار أبيض! ما كل هذه التفاهة؟!

الصحفى الكبير الأستاذ “جميل مطر” حفظه الله، حكى في كتابه الأخير: “حكايتى مع الصحافة” أن مقال الأستاذ هيكل رحمه الله الأسبوعي “بصراحة”، كان يُرسل إلى السفارات المصرية في الخارج، لترسله إلى وزارات الخارجية في العالم “مشفّرًا!

وحين اندهش الرجل الرقيق العميق كما يصفه أصدقاؤه، وسأل لماذا يُشفر؟! رغم أنه منشور في صحيفة الأهرام أمام الدنيا كلها، فجاءه الرد من أحد العناكب (بتعبير أ.ف.نجم) التي كانت تملأ الدولة وقتها: تشفير المقال يضفي عليه هيبة وقوة وأهمية!

لا يهم الموضوع، المهم صورة الموضوع، شكله، زخرفته، تلوينه، جعجعته، إلخ.

من الذي اكتشف هذه الحالة وفهمها وراقبها عن قرب وتأملها، وركز فيها وتفاعل بها، واستنتج منها وقرر أن يطلق في وجهها شهاب الحقيقة التي ستنطلق في ربوع الدنيا بمشارقها ومغاربها؟! وفي القلب منها النظام العربي الرسمي الذي جلس وتربع على صدر المنطقة العربية طوال سبعين عامًا؟ إنه الحاج “يحيى السنوار!

الذي جاءه التوفيق من خالقه (الرحمن، الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى) بأن يتأمل نفسه في السجن ويتماهى ويحاكي في هذا التأمل (النبي السجين) الذي أتاه الله مزايا وصفات خاصة.

خرج من سجنه بشروطه (بإذن ربه وليس بإذن سجانه الذي سجنه) وقلب الدنيا رأسا على عقب، وهو الآن في السجن مثله، في ظروف مشابهة، ولأسباب مشابهة، وما عليه إلا أن يعرف ويعرف، ويفهم ويفهم، فالمعرفة قوة، والفهم نور، وقد كان.

إنه 7 أكتوبر وإنه “طوفان الأقصى”، الذي سيكون شهاب الحقيقة الزاحفة، التي ستلطم الوجوه كلها، الزائفة الكاذبة الضالة المضللة في كل مكان، وكانت لطمة كل طرف بما يناسبه. لكن “الفضيحة أم جلاجل” كانت العامل المشترك بين الأطراف كلها.

أظن بن جوريون وجابتونسكى لو كانوا استحموا بجاز وبنزين وناموا، لم يكونوا ليحلموا في أسوأ كوابيسهم بما يرونه الآن في دولة إسرائيل.

الطريف فعلًا أن الموضوع يتحدثون عنه على أنه يتعلق بالوجود ذاته وليس اضطرابًا عارضًا.

ليس فقط لأن عندهم علومًا قديمة عن توقيت نهايتهم، لكن لأن الضربة كانت ساحقة شاملة، بكل أنواع السَحق (المعنوي والشعبي والأمني والسياسيي والعسكري والاقتصادي، إلخ)، سحق بشمولية تاريخيه كاملة الأركان.

جامعات أمريكا التي تخرج بأعلى الأصوات، إحقاقًا للحقيقة المسروقة واستعادتها من كهنة الأكاذيب.

هل أقول إن استخفاف بوتين بأوروبا وتمثيلية ترامب عن أوكرانيا كان له علاقة بشهاب الحقيقة الذي انطلق وزحف، بوتين رجل المخابرات المهني القديم، يعلم ماذا يعني إخفاق أوروبا وأمريكا مخابراتيًا في معرفة مكان الأسرى طوال 15 شهرًا في مساحة جغرافية قدرها 360كم!

أفهم طبعًا أن الموضوع له جذور عميقة في وعي روسيا بنفسها في الجوار الأوكراني القديم دينيًا وسياسيًا واستراتيجيًا (نابليون وهتلر ذهبوا إلى روسيا من السهل الأوكراني)، لكن البعد المخابراتي العاجز لم يكن ليغيب.

سنترك العالم العربي والإسلامي في تفاعله العميق البطيء الهادئ، لأن شأنه شأن مختلف تمامًا، فهو من مُلاّك الأملاك وليس زائرًا عابرًا، ومن ثم فالحديث متصل بالجذور والوعي الأول، وسيكون في مربط فؤاده.

لهذا حديث آخر تمامًا يطول ويتصل بالعامة من الناس، والحركات الإصلاحية والمثقفين والصادقين من رجال السياسة والاستراتيجية، وكل من لا يريد النجومية والاستعراض والاستعلاء على الناس، بدعوى تحمل مسؤولية تخفيف آلامهم ووجعهم.

كان والدي رحمه الله يقول لنا: حين تدخل مكانًا اقرأ: “وَقُل رَّبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَل لِّي مِن لَّدُنكَ سُلْطَانًا نَّصِيرًا (80) وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ ۚ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا (81)” من سورة الإسراء.

رحم الله والدي الذي علمني قراءتها، ورحم الله الحاج يحيى الذي علمني فهمها.

اقرأ أيضاً: 

الحقيقة بين الخلق والادّعاء

عالم ما بعد الحقيقة

هولوكوست غزة

* تنويه: الأفكار المذكورة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع.

_________________________________

لمتابعة قناة اليوتيوب لأكاديمية بالعقل نبدأ، اضغط هنا

لقراءة المزيد من المقالات، اضغط هنا

د. هشام الحمامى

رئيس المركز الثقافي اتحاد الأطباء العرب – عضو الأمانة العامة والمجلس الأعلى لاتحاد الأطباء العرب – مدير الشئون الطبية بقطاع البترول