تأثير الموروث الشعبي على النخب الثقافية .. الجزء الأول
هناك تصور غالب متعجل واستعلائي، بل أعمى أو على الأقل أعور، يعتقد أصحابه أن الثقافة تسري من أعلى إلى أسفل، أو هكذا يجب أن تكون، إذ تنتجها النخبة ويتلقاها عموم الناس على تفاوت إمكانياتهم، فيعلون من قدر الذين صدَّروها إليهم باعتبارهم صانعي معرفة وقادة رأي أو حكماء دائمين، يسعى كل منهم إلى أن يكون له جمهوره، الذي يعرفه ويتابعه ويتأثر به.
قاوم المختصون في الثقافة الشعبية هذا التصور طويلًا رافضين التسليم به، وطرحوا كثيرًا من العلامات والدلائل على أن الفهم والوعي لا يهبط من أعلى إلى أسفل فقط، بل يصعد من أسفل إلى أعلى أيضًا، وبين الحدين والقطبين والمكانين أو النقطتين المتقابلتين نظريًا هناك دومًا أخذ ورد وشد وجذب، ينتهي في الواقع بتفاعل خلاق أو تغذية مرتدة، بحيث تؤثر ثقافة النخبة في العامة، وتؤثر ثقافة العموم في أهل الصفوة، ويتفاعل الاثنان فيصنعان أنماطًا متنوعة من الفنون والآداب والأفكار والمعاني.
بذا فإن أسفل وأعلى، في قضية الثقافة هنا، لا يُقصد به ترتيب في المكانة أو الأهمية، إنما وصف لهرم ثقافي قاعدته العريضة تتمثل فيما تنتجه القريحة الشعبية من أساطير وحكايات ونوادر ونكات وأغنيات وحكم وأمثلة، إلخ، وهو غزير وكثير وساهم في بلورته جمهور عريض، جيل بعد جيل، أما القمة فتشمل مثقفي النخبة، وهم قلة القلة قياسًا إلى عدد من صنعت قرائحهم ومخيلاتهم وألسنتهم الثقافة الشعبية على اختلاف أنواعها.
سعي بعض الباحثين المختصين في الدراسات الشعبية إلى إنهاء الهوة بين الشعبوي والنخبوي، والتعامل مع نصوص النوعين باعتبارهما أدبًا متكاملًا، وليس متصارعًا أو متتابعًا، في أفضلية للثاني على الأول، إذ إن الموروث الشعبي العربي للأقدمين والمحدثين والمعاصرين من الثراء بمكان إلى درجة أن يهتم به المستشرقون ومفكرو عصر النهضة في العالم العربي، ويترسخ الاقتناع بدوره بمرور الوقت، حتى صار تأثيره على أدب النخبة ومنتجها الثقافي بعمومه أمرًا ظاهرًا عيانًا بيانًا، لا سيما مع الجهد الذي بُذل في جمع الفلكلور والتنظير له، وضع القواميس والموسوعات الخاصة به. ولعل ما أورده د.خالد أبو الليل في كتابه: “النخبة والعامة، الموقف من الأدب الشعبي في العصر الحديث”، يقدم أدلة واضحة على هذا.
وقد زاد الاهتمام بالفلكلور، ليس في الأوساط الأكاديمية وحدها إنما أيضًا بين المثقفين، وتتابعت قواميسه ومعاجمه عن العادات والتقاليد والاعتقادات والطقوس والأغاني والحكايات والسِيَر والألغاز والأمثال والحرف والصناعات والمعارف الشعبية، وساهم في كل هذا علماء ورواة وهواة، فوفروا للنخبة مادة ثرية، علاوة على ما يحل في رأس كل منهم على حدة، نتيجة تعرضه مباشرة للمأثور الشعبي في البيئة الاجتماعية المحلية التي ولد وعاش فيها، مثلما يحدث للأدباء والفنانيين المنحدرين من أصول ريفية.
إن المعرفة ليست حبيسة سطور الكتب فقط، إنما أيضًا تجري على الألسنة في كل مكان وزمان، وتغذيها القرائح الشعبية بما تُحصله من معرفة تتوالد مع الخبرة، ومعاركة الشروط القاسية للحياة، والرغبة الدائمة في التعلم والإرتقاء، وربما تخلقها حالات من كسب القوت والاستعراض والفرجة، كما نرى في الفرق الفنية الشعبية.
ينسى الذين يعتقدون أن الثقافة صناعة الصفوة أن هناك “نخبة شعبية” أيضًا، فلكل فئة أو شريحة أو حتى مهنة نخبتها، وبذا يكون من حق العموم، وهم الأغلبية الكاسحة، أن ينتجوا من بينهم وبشروطهم الأشكال الثقافية التي يعبر عنها أناس من بينهم. كما أن من بين هذه الصفوة من تخصص في الدراسات الشعبية، ومشي في مناكبها، وأخرج منها جواهر نفيسة، ومنهم من ساهم خلال زمن مضى في صياغة الأساطير والملامح، وإن كانت الطبقة الشعبية قد صنعت لها روايات متعددة.
كما أن الثقافة الشعبية في حد ذاتها أحد روافد الثقافة العامة، فمن هذا المثقف النخبوي الذي هبط من السماء، أو ولد في غابة، أو عاش في كهف معزول، أو برج عاجي، ولم يسمع موالًا أو مثلًا أو أغنية شعبية، أو لم يتابع واحدة من السِيَر الهائلة مثل سيرة بني هلال وسيف بن ذي يزن والزير سالم وحمزة البهلوان والأميرة ذات الهمة وعلي الزيبق والظاهر بيبرس وعنترة بن شداد، إلخ، ويتأثر بأبطالها الإشكاليين، الذين يصنعون أفعالًا عظيمة، ويرسخون قيمًا مفيدة، ويلهبون الخيال بالأساطير؟ ومن لم يسمع عن مبالغات وشطحات عدة عن كرامات الأولياء والقديسين؟
لعل النموذج الأبهى والأعمق، في هذا المضمار نص “ألف ليلة وليلة” العجائبي والغرائبي، لأنه المثل المكتمل للأدب الشعبي، نظرًا لكونه كتابًا “تمثلت فيه طوائف الشعب وطبقاته، وتراءت منه ميوله ونزعاته، وتكلمت فيه أساليبه ولهجاته، فأبرزت مميزات الأدب الشعبي ومعالمه وصفاته بصورة جلية واضحة”، وفق ما يقول محمد فتحي أبو بكر في تقديمه لهذا العمل الخالد. وقد تماهى هذا النص الباذخ في مخيلات وأذهان تتابع عبر الزمن، وتأثر به أدباء وفنانون في الشرق والغرب.
إن القريحة الشعبية جزء أصيل من العقل الجمعي لأي أمة، وهي جانب مهم من التعبير عن وجودها وهويتها، ولا جدال في هذا، ولو لم تكن تؤدي هذا الدور، وتحمل في باطنها كثيرًا من المعاني العميقة، وتحفل بالجماليات الظاهرة، والتأثير الواسع، ما كان يمكنها أن تلهم النخبة الثقافية نفسها، وتمدها بموضوعات وأفكار للكتابة، وهي مسألة لاقت رواجًا أكثر مع تعاظم الحيز الذي تشغله مواقع التواصل الاجتماعي الإلكترونية من الإعلام، والتثقيف، حتى لو كان سريعًا عابرًا.
نحن نعرف جميعًا أن فضل الحكايات والملاحم والأساطير الشعبية على ثقافة الصفوة لا يمكن نكرانه، لكن قليلًا ما تم حصر هذا، أو الإلمام بجانب عريض منه، حتى نقف على حقيقة ما قدمه الشعبويون للصفوة، رغم وجود كثير من الموسوعات حول الموروث الشعبي في البلاد العربية. فالبحث العلمي في هذه الناحية لم يلحق بكل هذا التأثير، لأنه أوسع من أن يُتَتَبَّع بدقة، كما أن كثيرًا منه يؤثر تأثيرًا غير مباشر، عبر التناص أو إلهاب المخيلات أو منح العمق الفني والإنساني، أو تغذية أساليب السرد، أو إهداء موضوعات وأفكار للكتابة.
نكمل الأسبوع المقبل إن شاء الله تعالى…
مقالات ذات صلة:
الأمثال الشعبية: فلسفة الجماهير
* تنويه: الأفكار المذكورة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع.
_________________________________
لمتابعة قناة اليوتيوب لأكاديمية بالعقل نبدأ، اضغط هنا
لقراءة المزيد من المقالات، اضغط هنا