بين منطق العمل ومنطوق العبارة
إن طريقة المرء في التعامل مع فكرته لا تقل خطورة عن طبيعة الفكرة في مضمونها، بمعنى أنني قد أتبنى رأيًا أو فكرة تتسم في مضمونها بالاعتدال، لكنني أُديرها على نحو لا يتسم بالاعتدال.
كثيرًا ما نلمس هذا عند أصحاب الأفكار المتضاربة، والمقولات المتناقضة، وبصرف النظر عن قسط أحدهما من الصواب، فأنت إذا ما تأملت الفريقين تجد أنهما وإنْ تضاربا في رأييهما، إلا أنهما اتفقا في علاقتهما بفكرتهما، إذ إنهما يُديران فكرتهما ويُصرّفانها على نحو يتسم بالحدية المفرطة، بمعنى أنهما يعتمدانها وحدها مفسرًا لكل شيء ويتخذونها رأس حربة وسبيل تفرقة وتكأة للتميز على الآخر، ولا يخلو ذلك من منزع عنف، قلَّ ذلك أو كثر، حتى لو كانت الفكرة التي يتبناها أحدهما لا تتسم بالعنف في ذاتها.
نعم لكل فكرة قدر من الخصوصية ومن ثم التمييز الذي يسم صاحبها، إلا أن طريقة المرء المعتدلة في تعاطيه معها تُخفّف من هذه الحدة التي تنبع من تلك الخصوصية الفكرية، وما تستلزمه من تميز.
وهو ما يعني أن الخطر ههنا خطرانِ، الأول: خطر الفكرة المتبناة من جهة مضمونها، فإن نجا المرء منه بتبنّيه لفكرة سليمة، فعليه أن يحذر من الثاني: وهو خطر العلاقة بالفكرة السليمة.
سبب الحذر من الخطر الثاني في كلامي أن خطأ مضمون الفكرة المتبناة قد تسهل معرفته، لكن خطأ علاقة المرء بفكرته (وهو الثاني) أخفى وأدق حتى على صاحبه، إذ إنه ثمرة عدم اختمار الفكرة السليمة في وجدان المرء ووعيه، أي: ثمرة عدم التمرس بالعمل الصالح الذي يُرسِّخ الصوابَ في وجدان المرء وكيانه، ويرتفع به من محض صواب يقبله عقلي ويُقرُّ به حسي إلى طابع يغلبني ويوجهني أكثر مما يُبصّر عقلي.
لذلك قد لا يتبنى المرءُ فكرةً عنيفةً، لكنه يُديرها ويُصرّفها على نحو يشي بالعنف وإن كان لا يجاهر به.
الطريق إلى معرفة علاقة المرء بفكرته
خطأ تصريف الفكرة وإدارتها لا يؤخذ من لفظ صاحبها، لأن اللفظ قد يكون سليمًا من جهة مضمونه، لكن خطأ إدارة الفكرة ينكشف من طريقة عرض المرء لها، ونمط تأتيه لها، ودخوله عليها، وكيفية تعاطيه معها، ومع مَن يختلف معه فيها، وطريقة استخدامه لها، ومقصد توظيفه لها.
من ثمَّ قد ترى عقلانيًا في مضمون أفكاره، لكنه غير عقلاني في علاقته بهذه الأفكار، أو ترى دينيًا معتدلًا في مضمون فكرته، لكنه عنيف في طريقة إدارته لفكرته المعتدلة، وفي المقابل ترى دينيًا في مضمون أفكاره لكنه عقلاني متزن في إدارته لفكرته الدينية، أو تجد عقلانيًا في مضمون أفكاره، لكنه ديني في طريقة إدارتها.
وهو ما يعني أن على الإنسان ألّا ينبهر بلطف الفكرة حتى يقف على طريقة تصريفها عند صاحبها، ويلحظ إجراءاته في تنفيذها، ويعرف مقاصده منها، فلم يعد كافيًا أن يُكتفى ببريق العبارات، حتى تُصدِّقَها التصرّفاتُ.
في كلمة واحدة: العبرة من هذه الزاوية بمنطق العمل لا بمنطوق العبارة.
مقالات ذات صلة:
التعصب والتسامح في مرآة الممارسات التطبيقية
* تنويه: الأفكار المذكورة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع.
_________________________________
لمتابعة قناة اليوتيوب لأكاديمية بالعقل نبدأ، اضغط هنا
لقراءة المزيد من المقالات، اضغط هنا