مقالات

الوجه بوصفه آية .. الجزء الثاني

الوجه كاشف أسرار الذات

قد يستطيع المرء منَّا التحكم في كلماته، فينتقي منها ما يؤكد معنى ما يُريده، لكنه لا يستطيع مراقبة تقاسيم وجهه على نحو مطلق، وهو ما يجعل الوجه دومًا بؤرة جدلية ثابتة بين التخفي والكشف، أو الحجب والفضح، بمعنى أن الوجه دومًا يتأرجح بين قطبين: ظاهره المُدّعى وحقيقة صاحبه المخبوءة.

وهو ما يجعل مهمة المرء إزاءه دائرة بين البحث في مرئي الوجه عما تسرب إلى سريرة صاحبه في غفلة منه عن ذلك، ولا ينشغل المرء كثيرًا بما يدّعِيه صاحبه بوجهه حتى يُسائل باطنه عن ذلك ويَخْبُرَهُ، إذ إن الوجه لو بدا قادرًا على الإخفاء فإنه مقتحم بالعُرْي، فهو يعرض سريرة صاحبه على العين كما هي ضدًّا على إرادة صاحبه، أو وفقًا لهواه.

سبب ذلك أنَّ كينونة الإنسان لها ظاهر مُدّعى، وباطن حقيقي، والوجه كما يُشكّل مظهرَ هذه الكينونة الظاهرية المُدّعاة، فهو أيضًا كاشف هذه الكينونة الباطنية الحقيقية، فالوجه أشبه بالفسيفساء التي تتداخل في تشكيلها إرادة التخفي عند صاحبه، وحتمية التعبير عن حقيقة صاحبه، تلك التي قضى بها خالقه سبحانه: ﴿ وَلَوْ نَشَاءُ لَأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُم بِسِيمَاهُمْ ۚ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ ۚ وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمَالَكُمْ﴾.

هذا ما يجعل الوجه مادة اختبار لصاحبه، أكثر منه حيازة واستيلاء، إذ إن وقوعه في يد صاحبه، لا يعني انتفاء ربوبية خالقه عنه، وكشفًا مني لهذا الاختبار أقول:

إن المرء منّا لا يحضر إلى موضوعه الذي يُقرّره بالقول في انفصال عما في الروح والقلب، بل إن ثمة رابطةً بينهما، والوجه هو المسؤول عن إبراز هذه الرابطة بين القول والقلب إذا كانت موجودة أو نفيها إذا كانت مفقودة.

اضغط على الاعلان لو أعجبك

فكما أنه لا حقيقة مادية لما في الروح والقلب حتى يُظهرها اللسان، فكذلك لا حقيقة معنوية تصديقية لما يُقرّره اللسان حتى تُصدّقه الروح، وينقل الوجهُ هذا التصديق عن هذه الروح، ودون هذه الرابطة بين الوجه والقول تصديقًا أو تكذيبًا سيكون المرء منّا ظاهرًا بلا باطنٍ أو وجهًا بلا سريرةٍ أو كلماتٍ بلا حميميةٍ.

فالوجه هو مأوى “التلفظ البياني”، بوصفه مسكن اللسان صاحب “البيان”، كما أنه مأوى “التلفظ الوجداني” بوصفه مجلي الانفعالات والأحاسيس التي تنبع من “الوجدان”، فلا شيء يمكن أن يدل على ما تنطق به الذات “بيانيًا” خارج ما يمكن أن تقوله قسمات الوجه عن حالات النفس وجدانيًا. بعبارة موجزة: لا حقيقة لما يحمله اللسان عن الروح والقلب إلا فيما يقوله الوجه عنهما، فهو ما يمثلهما في كامل عُرْيهما.

فالوجه يُكثّف مواقفه من القول في أفعال تُسند إلى أطرافه، وهو ما يجعله دالًا عن طريق تفاصيله لا عن طريق كليته، إذ إنَّه يضع دلالاتِه في العينين والخدين والشفاء والفم.

كأن الإنسان –والحالة هكذا– مُحمَّلٌ بلغتينِ تبوحانِ عن كينونته: واحدة تأتي من اللسان، والأخرى تأتي من الوجه، الأولى عبارية، والثانية إشارية، الأولى مُدّعاة، والثانية حقيقية، الأولى وحدها لا تؤثر من غير معونة الثانية.

يدعم أصالة لغة الوجه على لغة اللسان، تتبعُ خلق الإنسان طفلًا، فالطفل يُعبّر بوجهه قبل أن يتكلم بلسانه، فإذا كان السماع أبا الملكات اللسانية، كما ذهب إلى ذلك اللغويون المحدثون، فإنَّ الوجه باعتباره وعاء السمع وأول الكلام وأصله، هو أم الملكات الإنسانية قاطبةً، إذ إنها منه تفرعت سماعًا كانت أم لسانًا، فهو مهادها الأول ومأواها الأخير.

وإذا ما رحنا نفحص هذه العلاقة بين الوجه والروح أو القلب تحت المجهر، ونطلب اتجاهاتها، لنتعرف على طبيعتها فإننا سنطرح سؤالًا: هل علاقة الوجه بالقلب أو الروح علاقة تسير في اتجاه واحد: من القلب أو الروح إلى الوجه كشفًا فقط؟! أم أنها علاقة تسير في اتجاهين، الأول: من القلب والروح إلى الوجه كشفًا، والثاني: من الوجه إلى الروح والقلب علاجًا أيضًا؟! هذا ما سنعرفه لاحقًا.

مقالات ذات صلة:

الجزء الأول من المقال

سوء التغذية الروحية

العلاقة بين السلوك الإنساني والبيئة الاجتماعية

* تنويه: الأفكار المذكورة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع.

_________________________________

لمتابعة قناة اليوتيوب لأكاديمية بالعقل نبدأ، اضغط هنا

لقراءة المزيد من المقالات، اضغط هنا

د . أحمد عزت عيسى

مدرس بكلية دار العلوم جامعة القاهرة، قسم النحو والصرف والعروض