الناقد والمبدع والحرب الباردة
تتسم العلاقة بين المبدعين والنقاد بقدر من التوتر الذي يصل أحيانا إلى درجة الصدام، أو الصراع على المكانة، وفي ظل هذه الأجواء يمكن للناقد أن يمسح الإبداع بجرة قلم، فيحيل الشعر مثلا إلى لجنة النثر كما فعل العقاد مع شعر صلاح عبد الصبور، وقد يقابل الإبداعَ بالصمت التام بهدف نفيه بشكل هادئ من الوجود، وهذا ما نراه عند الغالبية من النقاد الذين يتجاهلون التجارب الجديدة ولا يدخلون معها في حوار من أي نوع.
وفي المقابل نجد المبدعين يقومون بتوجيه اتهامات كثيرة للنقاد مثل التعالي، أو الجمود، أو الكسل، ويصل الأمر حد اتهامهم بالخلل النفسي، لأن الناقد مبدع فاشل في تصورات البعض، ولهذا لا يبصر إلا عيوب وأخطاء المبدعين.
وهكذا تستمر العلاقة المتوترة أو الصدامية، ويتوالى تبادل الاتهامات، أو يدخل الطرفان في نوع من الحرب الباردة، وكل هذا في تقديري خطأ وخطر على الحركة الإبداعية والثقافية. المبدع في تقديري بطلٌ، والناقد بطل بنفس الدرجة، وإن اختلفت الأدوار والتصرفات والأدوات، والأوقات التي يصعد فيها كل منهما على خشبة المسرح.
بطولة المبدع والناقد
بطولة المبدع والناقد تذكرني بمفهوم البطولة في السير الشعبية، لأنه يقوم غالبا على بطلين متكاتفين، كما هو الحال مع عنترة وشيبوب. عندما نقرأ سيرة عنترة نجد دور شيبوب أكبر بكثير من اختزاله في مجرد تابع لشقيقه العظيم، بل نجد السيرة تسبغ عليه قدرا كبيرا من العظمة، وفي مواضع كثيرة يظهر عنترة بوصفه شديد الحمق والغباء، بينما يظهر شقيقه عقلانيا بدرجة مذهلة، وفي مواقف كثيرة يقوم شيبوب بإنقاذ عنترة من الموت المحقق.
عنترة وشيبوب وجهان لعملة واحدة، وجهٌ يجسِّد الثِقلَ والمواجهةَ المباشرة ورمزه السيف، ووجهٌ آخر يجسد الخفة وفن الحيلة ورمزه السهم، ولا يمكن للملحمة أن تقوم لها قائمة دون اندماج الوجهين معا. لقد خرج البطلان من رحم واحدة، وكانت حروبهما واحدة، كما أن حبكة السيرة جعلت عنترة أميرا، وجعلت شيبوب أميرا كذلك، أي أن المجد واحد، وهكذا الحال في العملية الإبداعية، المبدع بطلٌ، والناقد بطلٌ آخر.
يبدو الناقد تابعا للمبدع، لا لأنه الأضعف أو الأقل شأنا، أو الأصغر، بل لأن ظهوره على المسرح يبدأ بعد الإبداع، وهنا نرجع للسيرة، فرغم ظهور شيبوب كتابع إلا أنه الشقيق الأكبر، والشقيق الأصغر يتبع الأكبر بالضرورة، وهو ما أرادت السيرة نفيه، فالتبعية هنا لا تعبر عن مسألة قدرية أو بيولوجية، بل تعبر عن طبيعة الدور في أحداث معينة.
التناغم بين المبدع والناقد ضرورة
النقد هو البطل الذي يمشي في ظل العملية الإبداعية لا في ظل المبدع، وقد يبدأ الناقد صغيرا أمام حالة الإبداع الجديد، لكنه يكبر بها ومعها، حتى تصبح مكانته بالغة الأهمية، أي أن مكانة المبدع والناقد لا تبقى كما هي فوق السلم المتحرك للعملية الإبداعية.
المبدع لا يعني شخصا، بل سلسلة من المبدعين، فلا يوجد إبداع من فراغ، وكذلك الناقد لا يعني شخصا، كل تجربة إبداعية جديدة فيها مبدعون ونقاد عاشوا قبلها، أي أن الناقد الذي نراه تابعا في تلك اللحظة، له سلف سابق لعب دورا في ظهور الجديد.
الناقد يكون تابعا للمبدع في مرحلة الخلق الجديد، ويكون شريكا للمبدع في مرحلة بلورة ذلك الجديد، ومهيمنا على المبدع في مرحلة التكريس لذلك الجديد حتى يستقر ويتمتع بمكانة في الثقافة، وهنا تكتمل سطوة الناقد، ثم تأتي الحركة الاستثنائية للمبدعين بتجربة جديدة تجعل الناقد يبدأ دورة أخرى من حياته، يتبع فيها التجربة الجديدة، يصير تلميذا مغامرا، ويصغي جيدا، قبل أن يصبح جزءا أساسيا في التجربة، ثم عرابا لها.
عدم التمييز بين تلك المراحل خطأ، والتوقف عند مرحلة جمود، والتفاعل المستمر واجب، والصدام بين المبدع والناقد حماقة، والتناغم بينهما ضرورة، لأنهما وجهان لعملة واحدة، وكل خدش في وجهٍ يُفسد العملة كلها.
اقرأ أيضاً:
* تنويه: الأفكار المذكورة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع.