اللي ما لوش كبير!
عظيمة هي شفقتي على نفسي وعلى الأجيال التي نشأت في هذه الحقبة الزمنية الصعبة، إذ استُخرجت كثير من كوامن النفس الإنسانية كُرهًا بحلوها ومرها، وتبجحت الأنانية، وصار كل واحد يرى نفسه قمرًا يدور في فلكه الخاص، غير آبه بمن حوله، وغير مدرك أنه في متاهة لا يبدو منها منجى ولا ملجأ في أفق قريب.
يا ليته حين دار فيما يظنه فلكًا كان يعي ما يفعل، لا والله! فتشعر كأن كثيرين تحت تأثير مخدر يتحركون ويتكلمون ويذهبون ويجيئون هكذا خبط عشواء، ككرة البلياردو حين يسددها لاعب غير خبير فتصطدم بحواف الطاولة يمنة ويسرة، لا تدري أين تتجه ولا متى تتوقف، إنما حركتها ردة فعل للضرب على رأسها من صاحبها تارة، ومن الطاولة تارة، ومن رفيقاتها على الطاولة تارة أخرى.
إن كانت الكرة لها عذر، فما عذر من حباه الله عقلًا، وأرسل له رسلًا، وأنزل إليه كتبًا في أن يكون الضارب والمضروب في الوقت ذاته؟ يضرب رأسه بكل ما من شأنه أن يهلكه لولا أن الله لم يأذن بعد بهلاكه، فهو معجب بنفسه ورأيه مطلق لها العنان تضع حافرها حيث ينتهي بصرها، لا يلقي بالًا بالناصحين ولا الصارخين حوله: أَن حسبك! تكاد تلقى حتفك!
بين الناصح والمنصوح
لا أدعي أن هؤلاء الناصحين كُثُر، بل هم كالشعرة البيضاء في جلد الثور الأسود، لكنهم حتمًا موجودون، لكن لا وزن لهم عند كثير ممن هم تحت سلطان أنفسهم وأهوائهم، إنه إعجاب كل واحد برأيه ورؤيته ومسلكه وطريقته، فأنت حر ولك أن تضر، وعلى الضعيف أن يتوارى عن عالمنا أو أن يدفن نفسه قبل أن نتولى لَحدَه بأيدينا، فنواريه التراب، كي لا يعكر صفو سعادتنا، ويقطع نشوة سكرتنا.
لقد ظن كثيرون تحت ضغط سلطان الكيبورد والفضاء الأزرق والفراغ وعنفوان الشباب أنه يستطيع السير وحده في هذه القفار القاحلة، وما الذي يمنع؟ دعك ممن يحذرك وينبهك ويصرخ بك: لقد رأينا هذا الطريق قبلك فإياك أن تسلكه، يا بُنَيّ ليس هذا بسبيل فقد هلك فيه كثيرون، يا بُنَيّ ألجم كباح هواك، يا بني حافظ على قوتك ستحتاجها عما قريب، يا بني عمرك، يا بني عقلك، يا بني قلبك، أنت تذوب شيئًا فشيئًا وأنت لا تشعر، لكن لا حياة لمن تنادي، وينطلق المسكين إلى حتفه حيث الضحايا ما بين جريح وقتيل.
من الذي زرع في عقل صاحبنا أن استرشادك وإذعانك لناصح أمين إهدار لعقلك وخسارة لشخصك وتضييع لإمكاناتك؟ وأن السعادة والنجاة في اتباع ما يمليه عليك هواك؟! لماذا لا تكون استجابتك لهذا الناصح تحكيم للعقل وإعمال للفهم وحفظ للأعمار والطاقات أن تُهدَر فيما هو متأَكّد ضياعه وخسارته؟ ما هذه الثقة المفرطة في النفس التي نعرف جميعًا أنها لا تستقيم لك على حال؟! وأنها في حاجة ماسة للترويض المستمر، فما إن تغفل عنها، إلا وتنطلق من عقالها، وليتك تدركها بسهولة، بل إدراكها فيه عناء شديد هذا إن أدركتها سالمة، وهكذا في كر وفر مع هذه النفس يوم لك وأيام عليك.
من هو الناصح الأمين؟
إننا لا ندعو أن توقِّع لأي أحد على بياض كما يقال، ولا أن تسلم زمام عقلك لكل مارّ، وكل من هب ودب، إنما ننادي بك أن تنتبه لخطوات من قبلك، وأن تعتبر بهم وبسيرهم وخطئهم وصوابهم، فكثيرًا ما يحدثنا القرآن عن السابقين صالحين وغير صالحين، ويرشدنا في كل مرة أن عليك بسلوك طريق الصالحين، وإياك ومسالك الزائغين، فإن لم ينتبه المرء لما حوله من الآيات والنذر فلا يلومن إلا نفسه.
فإذا كان ثَمَّ ناصح أمين، فعُض على نصيحته بالنواجذ، فهذا كالآثار تُعرض في المتاحف، فإن منّ الله عليك بمثل هذا فلا يفوتك أبدًا، ولو كان هذا الناصح أبًا أو أخًا أو من هو في مثل منزلته، فهو أولى وأولى، إذ هو ناصح وزيادة، ولتحذر أيها القارئ الطيب من ذئاب لبست مسوح الضأن، يحسبها الجاهل أنيسًا فإذا بها إبليس، تفشي سرك، وتنهش لحمك، وتبيعك في السوق بدرهم، لكن لا بُدَّ أن يبتغي هذا الناصح الأمين بذلك وجه الله، فلا ينصحك لمال ولا شهرة، ولا يتكثر بك من قلة، ولا يتقوى بك من ضعف، ولا يتخذك جسرًا يعبر به إلى ما يصبو إليه، فحنانيك قبل أن تطلب مشورتك أيها القارئ الحصيف.
العيب في مخالفة الحق
لست أحب لك أبدًا أن تتوسع في ذكر أسرارك وخفايا أمرك، بل على قدر الحاجة إن كنت طالبًا المشورة، فأول السيل قطرة، ثم يفيض فلا يبقي ولا يذر، وإن كان ثَمّ أحد متوجه إليك بالنصيحة من غير ابتداء طلب منك فارعها سمعك، ولا تبحثن عن نواياه، وانظر إلى كلامه، فإن وجدت صدقًا فيما ذكر فلا عيب أن تسد الخلل وتصلح العيب، إنما العيب في مخالفة الحق ولو أتى ممن لا ترغب، وذكر عيب النفس ثقيل على النفس بخاصة أمام الناس، لكن العاقل يسعى في فكاك نفسه من الأسر، فيفتدي نفسه بالقليل والكثير، والغرض الأسمى أن يلقى الله سبحانه وتعالى بقلب سليم، فلا مانع من قليل تعب وتحمل، فالغاية تستحق بلا شك مثل هذا النّصَب.
وأعيد وأكرر لا بُدَّ أن يكون ناصحًا أمينًا، ثم لا تكن معه كتابًا مفتوحًا، إنما على قدر الحاجة، فإن تعذر عليك إدراكه، فأمسك لسانك، والجأ إلى ربك قبل الناصح ومعه وبعده أن يسددك، وتضرع إليه ليلًا ونهارًا وسرًا وجهارًا، فيوشك إن شاء الله أن يدلك.
مقالات ذات صلة:
* تنويه: الأفكار المذكورة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع.
_________________________________
لمتابعة قناة اليوتيوب لأكاديمية بالعقل نبدأ، اضغط هنا
لقراءة المزيد من المقالات، اضغط هنا