مقالات

الجنون العظيم

يقولون عنا إننا أمة لم تعد تملك إلا ماضيها، وهذا ليس صحيحًا، وقائل هذا القول يعلم أننا نملك أكثر مما يملكه هو وغيره، بل إن “الصراع” الذي بيننا وبينهم يكمن بالأساس في حقيقة ما نملكه، صحيح أن عيوننا وعلى كامل اتساعها مغمضة عن “حقيقة” قوتنا، وأن تلك القوة التي نملكها ليست محض تراث ولا محض تاريخ ولا حتى محض أفكار.

بل تكمن في جوهر الذات الموصولة بالوجود كله، ليست ذاتنا نحن فقط لكن “الذات الإنسانية” كلها! إنه مفتاح اللغز الكبير، لغز “المعادلة الإنسانية” في محياها ومماتها.

هناك مثل يقول إن “الذات صديقة من يصدق معها”، وهو مثل صحيح، فقيمة “الصدق” أكمل قيمة يحملها الإنسان بين ضلوعه وأتمها.

الصفة التي عُرف بها الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم بين الناس قبل الوحي كانت صفة “الصدق”، الصفة التي سيلازمها دائمًا ألصق الصفات بها “الأمانة”، حيث التبعة والعهد والمسؤولية.

قصة حضارتنا في انتصارها وصعودها، أو في ضعفها وانكسارها، ما هي إلا قصة “الصدق والأمانة” في وعينا بأنفسنا، ووعينا بالوجود من حولنا، بكل ما يحتويه هذا الوجود من بشر وشجر وحجر، القرآن الكريم أشار إلى ذلك في تكرار يمتلئ بالمعنى في أقصاه، فكرًا وفهمًا، وفي أوسع تلك الأفكار وهذا الفهم تأكيد للمعنى والغاية والهدف.

اضغط على الاعلان لو أعجبك

سيحدثنا بعدها المفكر الكبير علي شريعتي (ت/1976م) عن التواثق مع الله في مواثيق ثلاثة: ميثاق الأمانة وميثاق الشهادة وميثاق الرسالة.

نلوذ بتاريخنا، حين يضيق بنا حاضرنا ويضيق هو أيضًا بنا، وما أكثر ضيقه بنا في الحقيقة.

التاريخ ليس علمًا يتصل بالماضي، بقدر ما يتصل بالمستقبل، فهو اتصال بالماضي لا يعدو كونه قصصًا مرويات، على أهميتها وأهمية تذكرها.

لكن قيمته الحقيقية في أنه علم يتصل بالمستقبل، احتفظت له الحضارة الإنسانية بمكانة كبيرة في عمق أعماق معرفتها بالإنسان، ووجوده على أصلح ما يكون الوجود وأكمله، وسيكون هذا الوجود نافذة نطل منها على الوجود كله.

كونه يكرر نفسه أو لا يكرر، فتلك جدليات ترتبط بالموضوع الذي يُستدعى للحكم فيه.

أما كونه مرتبطًا ارتباطًا وثيقًا بقوانين وسنن فهذا صحيح في مجال الطبيعة، لكنه ليس صحيحًا في مجال الإنسان.

مجال الإنسان مرتبط ومحكوم بالإرادة، والقرآن الكريم أشار إلى ذلك بوضوح في حركة التغيير والتطور وارتباطهما بقرار الإرادة، وما تحمله تلك الإرادة من حرية واختيار وقدرة.

كانت الفترة من 1250م – 1260م من أشد الفترات التي مرت بالتاريخ العربي والإسلامي رعبًا وهولًا، إذ وجدت الأمة نفسها مهددة تهديدًا لم يسبق لها مواجهته، كان تهديدًا مزدوجًا.

فالصليبيون لا يزالون يشكلون تهديدًا مباشرًا في بعض مناطق الشام، فلم يكن نصر صلاح الدين في حطين (1187م) حاسمًا، وتوفي وهم في الشام.

لكن كان هناك خطر أفظع وأبشع، المغول الذين انحطوا كجلمود صخر حطه السيل من السلسفين الأسفل، والكارثة أن هجماتهم كانت هجمات إبادة وإفناء ودمار ورماد.

كانت تسبقهم إلى الناس حكايات الفزع والهول الذي يحدثونه في الأرض، وطبيعي أن يأتي الرعب مع هذه الحكايات، وأصبحت الأمة جموعًا جامعة من “المرعوبين” الذين يريدون الحياة والبقاء على قيدها بأي صورة، يأكلون ويتغوطون ويتكاثرون ويتصارعون على الخيبات التافهات.

“سوسة” حب الحياة حين تنخر في عظام الإرادة الإنسانية تمسخ هذه الإرادة، وتهبط بها إلى ما هو أدنى من الحيوانات، لا تدرك إلى أي كارثة سينتهي بها المصير.

كان يحكم مصر مملوك من المماليك البحرية اسمه قطز (ت/1260م) تولى رسميًا عند دخول هولاكو حلب، فالنار على أعتاب الأبواب، وكانت أحوال البلاد السياسية والاقتصادية والاجتماعية والدينية شديدة السوء، فقد كان حال الناس وقتها مثل حالنا اليوم، يعيشون أزمة كبيرة، وما أجمل الخطر وما أروع الأعداء، إذ يجعلوننا دائمًا في حالة تأهب واستعداد، الخطر يستدعي فينا أقوى ما فينا، ويلقي بأضواء ساطعة للغاية على خريطة الواقع الذي بين أيدينا.

لن يكون هنالك مكان للأحلام ولا للأماني، وسيكون الأمان في العمق، والعمق هنا حصنك الحصين، بيتك من الداخل، كانت الجدران متصدعة ومشروخة، والفوضى تملأ المكان كله.

الإرادة والقدرة هنا سيسعفانك إسعافًا شاملًا، إنه الوقوف على الجانب الصحيح من التاريخ، بالشكل الصحيح وفي الوقت الصحيح، إن لديه قدرة واضحة وواسعة على ما ينبغي فعله.

كيف كان ذلك؟

إنها المصالحة، لا مجال للتخاصم في أوقات الأخطار، إنه ينادي الجميع، وإنه ليحضنهم بدفء وأمان، يد مبسوطة وعقل كبير وقلب جريء. فعمل على مصالحة المماليك فيما بينهم، واستقدم ركن الدين بيبرس (ت/1277م) الذي كان هاربًا من مصر في ظروف التخاصم والتدني على مطالب النفس الدنيئة، وسعى الاثنان قطز وبيبرس بعدها إلى نوع من الوحدة مع الشام، فتم تحييد أمرائه، كي لا يتعاونوا مع التتار ضده، لكنه فشل، وفضل أمراء دمشق وحماة أن يتحالفوا مع التتار.

وصلت رسل هولاكو إلى مصر ومعهم رسالة تهديد لقادة البلاد، ماذا في الرسالة؟ “بسم إله السماء الواجب حقه، الذي ملكنا أرضه، وسلّطنا على خلقه ممن حل به غضبه، فلكم بجميع الأمصار معتبر وعن عزمنا مزدجر”، إلى آخر الرسالة.

فجمع قطز أهل الرأي والعقل وأطلعهم على الرسالة، فرأى بعضهم “الانفتاح على الواقع”، والتعامل مع مقتضيات الظروف الراهنة! والتخلي عن أحاديث الوهم بالنصر المبين وما إلى ذلك!

يقولون إذا رسخت فكرة في ذهن إنسان عجزت كل الدنيا عن إقناعه بالتخلي عنها، وهو ما جعل قطز يقول لهم: “أنا ألقى التتار بنفسي إذن”، ثم صرخ فيهم وهو يبكي: “من للإسلام إن لم نكن نحن؟”.

سينفجر الصدق الذي حملته تلك الكلمات في وجوه من حضر ومن غاب، وسينتفضون معه كأنهم ولدوا من جديد، لقد ناداهم بالمثل الأعلى الذي يمكنهم بلوغه، وقد سمعوا ولبوا.

فقام الجميع وبايعوه على الجهاد، وعلى نحو حاسم فاصم، قام بقطع أعناق الرسل الهولاكيين، وعلى ما في هذا الفعل من خروج على الأعراف المرعية في التعامل مع الرسل، لكن المشكلات المجنونة لها حلول مجنونة أحيانًا، كما يقال في سالف تلك الأحوال، وعلّق رؤوسهم في الطرقات والشوارع بين “المرعوبين”، وأبقى على واحد فقط ليحمل أخبار هذا “الجنون العظيم” إلى هولاكو (ت/1265م).

بقتل الرسل يكون الملك المظفر قطز قد وضع البلاد كلها أمراء وعلماء، خاصة وعامة، أغنياء وفقراء على طريق اللا عودة، إنها الحرب، ولا مجال غير الحرب، وكان ذلك أول النصر.

وانتصرت مصر، وانتصر الشرق، وانتصر الإسلام، وسيبقى المعنى حاضرًا، دائمًا وأبدًا عبر كل التواريخ والأزمان، إنها مصر، بعزها يكون الشرق أو لا يكون.

سيكون شاعر النيل “حافظ إبراهيم” هنا استراتيجيًا من الطراز الرفيع، قبل أن يكون شاعرًا من الطراز الأرفع، حين يصرخ في آذاننا بكاء هادرًا ودمعًا فائرًا:

أنا إن قدر الإله مماتي لا ترى       الشرق يرفع الرأس بعدي

اقرأ أيضاً: 

التصور الفكري لدى المجتمعات العربية

درس قطز

الطلبة والسباهية

* تنويه: الأفكار المذكورة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع.

_________________________________

لمتابعة قناة اليوتيوب لأكاديمية بالعقل نبدأ، اضغط هنا

لقراءة المزيد من المقالات، اضغط هنا

د. هشام الحمامى

رئيس المركز الثقافي اتحاد الأطباء العرب – عضو الأمانة العامة والمجلس الأعلى لاتحاد الأطباء العرب – مدير الشئون الطبية بقطاع البترول