اللغة وسيلة للتعبير عن الحقائق أم إخفائها
تعد اللغة كما هو متعارف عليه أهم وسيلة للتواصل بين البشر؛ فبها نعبر عن ما بداخلنا وبها نحصل على ما نريد وبها نصالح وبها نعادي وبها تقوم الحروب وتخمد. وبها نُحلّل ونرتب أفكارنا ونقيّم مَن حولنا ونُصنفهم إلي أخيار وأشرار، ولكن هناك الكثير من التساؤلات التي تُثار حول اللغة وعن ما إذا كانت حقا تعبر عن حقيقة ما نفكر فيه؛ أم أنها وسيلة لإخفاء ما بداخلنا وتضليل مَن حولنا، كما أنَّ نشأة اللغة وطبيعتها لازالت مصدر تعجب وحيرة عند الكثيرين، لهذا نترككم مع هذا الحوار الشيق لأحد الأصدقاء و الفيلسوف “ابن مسكوية” حول اللغة ونشأتها وكيفية التعامل معها .
لماذا وُجدت اللغة ؟
سأل أحد أصدقاء الفيلسوف “ابن مسكويه” عن سبب وجود كلمات متشابهة كثيرة في اللغة تعبر عن نفس المعنى وأيضا عن سبب وجود لفظ واحد له اكثر من معنى، فأجابه “ابن مسكويه” قائلا : إننا بحاجة لفهم السبب الذي من أجله احتاج الناس للكلام والعلة الداعية لتقسيم الكلام لاسم وفعل وحرف، ليسهل علينا الإجابة عن سؤالك فنقول :
إن السبب الذي احتِيج من أجله إلى الكلام هو: أن الإنسان الواحد لما كان غير مكتَف بنفسه في حياته، ولا بالغ حاجاته من نفسه، احتاج إلى استدعاء حاجاته من غيره من الناس، ووجب بشريطة العدل أن يُعطي غيره عوض ما استدعاه منه،
ولما كانت هذه الأشياء التي بها تتم حياتهم وتحسن معايشتهم (مادية كانت أو معنوية) كثيرة ومتنوعة وربما كانت حاضرة تارة وغائبة تارة أخرى؛ فلم تكف الإشارة إليها، فلم يكن هناك بُد من الاتفاق على أصوات تدل على معاني هذه الأشياء وتميزها عن بعضها البعض، فتسهل المعاونة ويكمل فهم الحياة البشرية.
لم وجد التنوع في الألفاظ؟
فسأله صديقه متعجبًا : ولكن إذا كان الحال كما قلت، فلماذا وُجدت ألفاظ متنوعة لنفس المعنى؟ ولماذا وُجد لفظا واحدا له عدة معاني ؟ أليس هذا مما يُؤدي إلى الالتباس والاشتباه ؟
فأجابه الفيلسوف : هناك بعض الأسباب التي نظن أنها أدت لوجود هذين النوعين من الألفاظ يا صديقي، نذكر بعضهم :
الأول أن الأحوال والأشياء التي تتصورها النفس كثيرة جدًا وبلا نهاية، أما الحروف التي يتم التعبير من خلالها عن ما تتصوره النفس فمحصورة ومحدودة حتى ولو تنوعت وكثرت تراكيبها، ومن البديهي أن الكثير إذا قُسم على القليل اشتركت عدة منها في واحدة، ومن هنا حدث الاتفاق في الاسم،
وهو أن توجد لفظة واحدة لها أكثر من معنى، كالعين التي نُبصر بها، وعين الماء، وعين “البوتجاز” وغيرهم، ولم يقع هذا الفعل المؤدي إلى الإلباس والإشكال، وإلى الغلط والخطأ في الأعمال والاعتقادات باختيار، بل باضطرار طبيعي كما بيَّنا وأوضحنا.
فسأله الصديق : وماذا عن النوع الثاني ؟
فأجابه الفيلسوف : من المعروف أن الخطباء والشعراء وأصحاب البلاغة هم الذين يحتاجون إلى استخدام الكلام في مواقف الإصلاح بين المتخاصمين والحض على الحروب والكف عنها وغير ذلك من المقامات؛ الأمر الذي يُحتاج فيه إلى الإطالة والإسهاب، وترديد المعنى الواحد على مسامع الحاضرين ليتمكن من النفوس وينطبع في الأفهام؛ فإنهم لم يستحسنوا ترديد نفس اللفظ مرارا كثيرة، ولا سيما الشاعر،
فإنه مع ذلك دائم الحاجة إلى لفظ يضعه مكان لفظ دال على معناه بعينه ليُصحح به وزن شعره ويُعدّل به أقسامه، فاحتيج لأجل ذلك إلى أسماء كثيرة ٍ دالة على معنى واحد. وبالرغم من أن طبيعة هذا النوع من الألفاظ يناقض الغاية التي وُجدت من أجلها الألفاظ إلا أنه لولا حاجة الخطباء والشعراء وأصحاب السجع والموازنة إليه لكان لغوًا باطلا.
ولكن يجب أن نضع في الحسبان مدى معرفتنا باللغة العربية ودقة معاني الألفاظ والكلمات، فلربما لجهلنا بهذه المعاني نظن أنَّ لفظين متشابهين في المعنى، ولكن بينهما اختلاف دقيق لا يعرفه إلا أهل العلم.
الالتباس في الفهم
فتساءل صديقه : ولكن حتى لو كانت هناك أسباب معتبرة أدت إلى هذين النوعين من الألفاظ، أليس من الوارد أن يُفهم من الألفاظ ما لا يُقصد بسبب اختلاف المعاني عند القارئ أو المستمع عن ما هي عند الكاتب أو المتكلم؟ فكيف نتفادى إذن هذا الالتباس المحتمل ؟
فأجابه الفيلسوف : أتفق معك، من الوارد جدا حدوث هذا الالتباس؛ لذا علينا أن نتحرى الدقة عند تفسير أي مقولة مكتوبة كانت أو مسموعة وذلك عن طريق الآتي:
إذا كنا نقرأ كتابا فعلينا أولا الاطلاع على ثقافة ومنهج ومرجعية الكاتب ليتضح لنا ما يعنيه بكلامه فاستخدام مفهوم الحرية عند كاتب علماني ليس نفس المعنى الذي يقصده متدين أو فيلسوف أخلاقي حتى هؤلاء يختلفون باختلاف المذهب العقائدي والفلسفي الذي ينتمون له، وإن توفر لنا لقاء الكاتب وسؤاله عن مقصوده في كتابه كان أفضل.
هذا فيما يخص قراءة الكتب أما فيما يخص الاستماع الي أحاديث الآخرين فمن الواجب على المُتلقي عدم حمل معنى الألفاظ على ما تربى أو اعتاد؛ بل عليه التأكد من مقصود المتكلم وتحري المعاني التي يقصدها المتكلم لا التي وقعت في نفس السامع.
ملحوظة :
هذا المقال مستوحى من إحدى مقالات الفيلسوف “ابن مسكويه” ولكن بتصرف وتعديل وإضافة بعض الأفكار؛ فإذا أردتم الاطلاع على الأصل يمكنكم الرجوع إلى كتاب الهوامل والشوامل “المسألة الأولى“ .
اقرأ ايضا: