إن العلاقة بين الوجه من جهة والروح والقلب من جهة أخرى لا تسير في اتجاه واحد فقط: من الروح إلى الوجه كشفًا للوجه عما في الروح، لكنها تسير –فوق ذلك– من الوجه إلى الروح والقلب علاجًا لما في القلب والروح، وقد تعرّض القرآن لهذه العلاقة باتجاههَيْها على النحو الآتي:
أولًا: العلاقة من القلب إلى الوجه كشْفًا
قد كان الحديث عن هذه العلاقة واتجاهها في القرآن صاحب النصيب الأوفى حظًا، نظرًا لأنها مؤكِّدةٌ مربوبية الوجه لخالقه أكثر من وقوعه في أسر صاحبه.
فالوجه في الإنسان ناطقٌ مرتينِ: مرةً لأنه مأوى الجزء الوحيد الناطق “بالفعل” في الجسد، ألا وهو: اللسان، وأخرى لأنه الجزء الوحيد الصامت الذي يجمع ما ينطق “بالقوة” في الجسد، ألا وهي: قسمات الوجه.
قد أفاض القرآن في حديثه عن كشف الوجه لما في القلوب تارة بالحديث عن حالة الوجه ووصفه إجمالًا، وأخرى بالحديث عن قسماته في بعض المواقف تفصيلًا، على النحو الآتي:
- أما الحديث عن لونه أو حالته إجمالًا، فيتجلى في آيات عدّة، كلها تؤكد مركزية الوجه في إظهار حالة الإنسان سواء أكانت خيرًا أم كانت شرًّا، ومنها قوله تعالى: ﴿يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ﴾، ﴿وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ ﴾، ﴿وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ بَاسِرَةٌ ﴾، ﴿وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُّسْفِرَةٌ ﴾، ﴿وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ ﴾، ﴿وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ ﴾، ﴿وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاعِمَةٌ ﴾، ﴿وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُم بِالْأُنثَىٰ ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ﴾، وغيرها كثير.
- وأما الحديث عن قسماته فيتجلى في قوله تعالى عن النبي: ﴿عَبَسَ وَتَوَلَّىٰ، أَن جَاءَهُ الْأَعْمَىٰ﴾، وقال تعالى عن الوليد بن المغيرة: ﴿ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ﴾، ﴿وَإِذَا تُتْلَىٰ عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُوا الْمُنكَرَ﴾، وغير ذلك.
ثانيًا: العلاقة من الوجه إلى القلب علاجًا
لو بدا الوجه مرآةً للقلب، أي أنه يعكس ما فيه، فهو أيضًا يشكل مدخلًا أنسب وسبيلًا أقصر للوصول إلى القلب، وإذا ما رحنا نطلب سببًا لذلك التميّز الذي يجعل الوجه أقرب المداخل إلى القلب علاجًا وتأثيرًا، فإننا نجد أن للوجه من المكان والمكانة ما ليس لبقية أعضاء الجسد، وهذا بيان لهذين الأمرين؛ المكان والمكانة:
أما المكان فالوجه أول الجسد رأسيًا، يؤكد هذه الأولية دلالته في اللغة إذ إن وجه كل شيء: أوله، ومنه قوله تعالى: ﴿وَجْهَ النَّهَارِ﴾، أي: أوله، وأكثر ما يستوقف الإنسان في الآخر أفقيًا بحكم قيادته لهذا الإنسان.
أما المكانة فتتجلى في معرفة أنَّه لما كان الوجه بؤرةً لمنافذ مهمة للقلب، ألا وهي: السمع والبصر والكلام، صار أنفذ أعضاء الجسد الخارجية إلى القلب والروح.
سأشرع الآن في التدليل على هذينِ الأمرينِ: الأول: المكانة التي نسبتها للوجه عمومًا، والثاني: كون الوجه أنفذ المداخل إلى القلب علاجًا.
- أما ما يدعم هذه المكانة التي ننسبها إلى الوجه فإنه يتجلى في أننا نجد النصوص الشرعية كثيرًا ما تتكلم عن الناس بوصفهم وجوهًا:
- ففي القرآن كثير من الآيات التي تشير إلى الناس في الدنيا والآخرة بوصفهم وجوهًا سواء أكانوا منعمين أم كانوا معذبين، ففي الدنيا يقول تعالى: ﴿وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ﴾، ﴿وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِّمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ﴾، ﴿فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ﴾، وفي الآخرة يقول: ﴿يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ﴾، ﴿وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ﴾، ﴿وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَىٰ وُجُوهِهِمْ﴾، ﴿الَّذِينَ يُحْشَرُونَ عَلَىٰ وُجُوهِهِمْ إِلَىٰ جَهَنَّمَ﴾، وغير ذلك كثير من الآيات التي تتحدث عن الناس بوصفهم وجوهًا.
- ومن السنة: قول النبي: “لتُسوُنَّ بين صفوفكم أو ليخالفَنَّ اللهُ بين وجوهكم”.
وهو ما يعني أن الإنسان لو أردنا اختصاره ماديًا فإنه يُختصر في “وجهه”، إذ إنه ميزته التي بها يتفرد عن سائر بني جنسه، فما سوى الوجه في الجسد يقبل التكرار شكلًا وحجمًا، كما أنه فقير في ملكاته مقارنة بالوجه، أما الوجه فلا.
- أما ما يدعم ما طرحناه من كون الوجه أنفذ المداخل إلى القلب علاجًا وتطييبًا، فإنه يتمثل في:
- الآيات الكريمة من سورة يوسف تدعم ذلك الاتجاه الذي يسير من الوجه إلى القلب علاجًا حينما تقول مرتين عن قميص يوسف عليه السلام الذي كان سببًا في شفاء أبيه من حزنه وذهاب بصره: ﴿فَأَلْقُوهُ عَلَىٰ وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيرًا﴾، ﴿أَلْقَاهُ عَلَىٰ وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِيرًا﴾، فأوضحت الآيتانِ أن الوجه كان سبيلًا مباشرًا لعلاج ما فيه، وتجلى ذلك أسلوبيًا ولغويًا بأمرين:
- وضع تحول الأب بصيرًا في صورة جواب أمر: ﴿فَأَلْقُوهُ عَلَىٰ وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيرًا﴾، الأمر الذي يؤشر على أن الدواء قد دخل إلى الداء من أقرب منافذه، وهو الوجه.
- يؤكد هذا الاستنباط المسوق آنفًا، أمران: (1) مجيء الفاء في قوله تعالى: ﴿فَارْتَدَّ بَصِيرًا﴾ التي تجعل الإبصار نتيجة مباشرة لإلقاء القميص على الوجه. (2) الفعل ﴿ارْتَدَّ﴾ الذي يبرز قوة التحول في حال يعقوب عليه السلام نتيجة هذا الدواء الناجع بالطريقة المسددة.
- يدعم ما جاءت به الآيتانِ ما نبّه إليه النبي صلى الله عليه وسلم، من أنَّ ملاقاة الأخ لأخيه بوجه طلق، صدقةٌ، لكون هذا “الوجه الطَلْق” علاجًا ناجعًا ونافعًا لقلب الأخوينِ معًا.
مقالات ذات صلة:
* تنويه: الأفكار المذكورة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع.
_________________________________
لمتابعة قناة اليوتيوب لأكاديمية بالعقل نبدأ، اضغط هنا
لقراءة المزيد من المقالات، اضغط هنا