مقالات

كلنا ذلك الرجل .. إلا..

أحد علماء النفس الكبار اسمه فيليب زيمباردو (90 سنة)، كان قد غاص بأبحاثه في أعمق أعماق ظلمات النفس البشرية، تولد لديه يقين بأن الإنسان حين يمتلك سلطة مطلقة من أي قيد أو رقابة فإنه سيأتي فورًا بأسوأ الأفعال، حتى ولو في أصغر المواقع والأماكن التي تتطلب وجود سلطة.

كعادة العلماء الكبار أراد الرجل أن يبرهن على استنتاجه، فقام بتجربة خطيرة جدًا، عرفت في تاريخ الاجتماع السياسي بتجربة “سجن جامعة ستانفورد”، كان هذا في بداية السبعينيات، 1972م.

جامعة ستانفورد لمن لا يعرف من أعرق الجامعات الأمريكية، تأسست عام 1885م، وأيضًا من أغلاها، أغلب طلابها من أبناء البيوتات العريقة الراقية.

بدأ د.زيمباردو عمله باختيار وتقسيم مجموعة من الطلبة إلى مجموعتين، مجموعة لعبت دور مساجين، والأخرى دور سجّانين، في سرداب جامعة ستانفورد، الذي تم تهيئته وتقسيمه ليبدو كسجن.

قام الرجل بإحكام تجربته لدرجة أخذ الطلبة المساجين من بيوتهم مقيدين بالأصفاد، على يد الطلاب الذين قاموا بدور السجّانين، وقد ارتدوا زي ضباط شرطة، كانت القاعدة الوحيدة في الموضوع هي: لا قواعد، ولا قوانين، على السجانين اتخاذ كل التدابير اللازمة بطريقة: كما يحلو لك! دون أي مساءلة من أي نوع؛ افعل ما تشاء، وقت ما تشاء، وبالطريقة التي تشاء.

اضغط على الاعلان لو أعجبك

كانت النتيجة مرعبة بالمعنى الحرفي لكلمة رعب!

لقد قام السجّانون بأفعال بالغة القسوة والشراسة تجاه المسجونين، وكان د.زيمباردو يقوم بمراقبة ما يحدث عبر شاشات مراقبة، ويرى كيف تحول هؤلاء الطلاب المهذبون أبناء الناس، إلى هذه الدرجة من الغلظة والقسوة المرعبة، رغم أنهم كانوا معروفين بتهذيبهم وهدوئهم وتفوقهم الدراسي الذي جعلهم يلتحقون بهذه الجامعة العريقة!

أوقِفت التجربة فورًا من اليوم الثاني، وقال بعدها د.زيمباردو: “كنت مهتمًا بأن أعرف ماذا يحدث إذا ما وضعت أشخاصًا “جيدين” في مكان “شرير”؟ هل الوضع من حولك سيسيطر على أفعالك؟ أم أن الأشياء التي بداخلك، مثل مبادئك وأخلاقك، ستساعدك أن ترتقي فوق البيئة السلبية؟!”.

تأكد له استنتاجه الذي أصبح موجودًا في كل مراجع علم الاجتماع السياسي الآن: إن السلطة المطلقة تخرج أسوأ ما في النفس البشرية.

هذا أنا وأنت ونحن! لا يُستثنى أحد من هذه القاعدة، ولا حل لنا جميعًا إلا بمنعنا من امتلاك تلك السلطة المطلقة! ووضع ألف حاجز وحاجز أمام وجودها على هذا النحو مع هذا “الإنسان”.

سنتذكر هنا النص القرآني في وصف الإنسان وطبائعه التي جاء بها إلى الأرض، وتفاصيل الطريق الذي يتعين عليه أن يسلكه، راجعًا إلى ربه، بعد اجتيازه لمحطات الطريق محطة محطة، وكيفما اختار، بكامل إرادته الحرة: “إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ (2) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ (3)”، سنلحظ هنا أن الحالة مزيج بين الفردي/الشخصي، وبين العام/الجماعي.

ليس هناك جبر ولا إكراه للإنسان في ذلك، ومهما كان من جبر المجتمع وجبر التاريخ وجبر الطبيعة، إلا أن الإنسان يمتلك جبر المسؤولية وفق اختياره وتقديره.

الآية الكريمة تنص صراحة على أن “كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ”، وأن مصير الإنسان النهائي يوم يرى بكلتا عينيه ما صنع بكلتا يديه، وحيث أراد واختار.

ستذكرنا قصة السلطة المطلقة، بابن رشد (ت/1198م) الذي قال من تسعة قرون مضت، ويوم أن كانت الدولة في الأندلس تتجه نحو الانفراط والضعف: “السلطة المطلقة.. مفسدة مطلقة”.

هذه الجملة ستنتشر في أوروبا والعالم كله على لسان اللورد الإنجليزي إدوارد أكتون، المؤرخ والسياسي الشهير (ت/1904م)، عندما قال: “إن الجاه والقوة يؤديان إلى الفساد”، وأضاف قولًا خطيرًا حين قال: “إن السلطة مفسدة في ذاتها”، في ذاتها؟ ما بالك إذا كانت مطلقة؟ ستكون مفسدة مطلقة!

أهلًا وسهلًا بالأخت “مطلقة”!

لكن يا سيدي اللورد لدينا في الوحي والتنزيل ما يحتويك، ويحتوي كل أفكارك وأفكار معلميك عن النفس البشرية، في هذه الحال التي ظننت أنك قد قبضت فيها على المعنى والمراد، في سورة العلق: “كَلَّا إِنَّ الْإِنسَانَ لَيَطْغَىٰ (6) أَن رَّآهُ اسْتَغْنَىٰ (7)”، التي بدأت فيها السورة بكلمة “إقرأ”.

الأجمل والأروع أن الرؤية هنا ليست مغلقة، بل مفتوحة على أوسع أبواب الإدراك بالوجود كله، وسنقرأ بعدها فورًا: “إِنَّ إِلَىٰ رَبِّكَ الرُّجْعَىٰ (8)”، وهذا منتهى الوعي بالذات في مستقر الوعي بالوجود.

لكن الأستاذ الجميل “جميل مطر”، الكاتب والدبلوماسي المعروف، كتب عن هذا المعنى مقالًا جميلًا في جريدة الشروق 29/6/2016م، ومن جماله احتفظت به.

قال: “لو عاش اللورد أكتون في يومنا هذا لما قال بأفضل من عبارته الشهيرة عن الفساد (السلطة مفسدة والسلطة المطلقة مفسدة مطلقة)”.

يستطرد: “تذكرت الكتاب الرائع الصادر في سنوات الستينيات لعالم الاجتماع السياسي رايت ميلز، تحت عنوان (نخبة القوة أو السلطة)”، وهو الكتاب الذي أطلق العنان لعلماء عديدين لدراسة أصول الطبقة الحاكمة في أي مجتمع سياسي.

يقول رايت إن الطبقة الحاكمة في الولايات المتحدة قامت على ائتلاف يضم ممثلي النخب العسكرية والسياسية والمالية في المجتمع الأمريكي.

ثم جاء عالم الاجتماع الشهير سوروكين، الذي درس النخبة الحاكمة في موسكو، مؤكدًا ما أشار إليه رايت ميلز، مع إضافة اكتشافه أن أغلب أعضاء النخب الحاكمة، يعانون من مرض السلطة، وفي العادة أكثر ذكاء من الناس العاديين، لكن مصابون بحالات انحراف عقلي، أهلًا وسهلًا يا سيد سوروكين.

كل ما قاله الأستاذ مطر معلوم من الواقع بالضرورة، كما يقولون، وسيلفت نظرك هنا أن الأستاذ مطر لن يكون له أي علاقة بالأصول المرجعية الكبرى لثقافتنا وتاريخنا، في استحضار كل ما يتصل بالموضوع، وعلى رأسها وفيها ولها كلها الوحي القرآني، الذي يمثل مركز الدائرة في كل ثقافتنا ووعينا بالوجود والدنيا والناس في هذا الوجود.

أعمق أعماق قوة هذا الوعي، استقراره في الروح قبل العقل المغرور، استلهامًا للآية الكريمة “إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ”، التي تمثل كل جماليات هذا الوجود وحلاواته وراحة بال الإنسان وسكينة قلبه، ليس دروشة ولا خيال، بل فلسفة أعماق الأعماق في معرفة الإنسان بنفسه، أصلًا ومصيرًا.

عليك أن تدرك المعنى هنا بكل وسائل وطرق الإدراك، إشراقًا روحيًا كان، أو استخلاصًا منطقيًا، وستصل، وما أجمله من طريق وما أروعه من وصول، لماذا؟ لأننا سنكون في مغزى “المعنى” وعمقه وثرائه وغاياته.

وما أتعس وما أخيب من يحيا بلا معنى، وهذا هو الصراط المستقيم الممتد في الفهم والوعي بالمعنى إلى مصبه الطبيعي، الذي سيتوقف لدى “الآخرين” عند طريق مسدود.

الأستاذ مطر هنا على فكرة يمثل جيلًا بأكمله، أخذ هذا الموقف المتباعد من ثقافتنا، كما سنفهم من الأستاذ محمود شاكر رحمه الله (ت/1997م) في كتابه الرائع “رسالة في الطريق إلى ثقافتنا”، الذي نشرته مكتبة الأسرة سنة 1997م.

لا أتهم الأستاذ مطر هنا بشيء، حين أذكر ما قاله لي أحد الأصدقاء نقلًا عن الأستاذ الكبير فهمي هويدي وأحد أساتذة الفهم الخالصين، في وصفه لفئة واسعة من النخب العربية من أنه: “وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ ۖ وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِن دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (45)” كما جاء في سورة الزمر.

لكني سأختم بما يريح الأستاذ جميل مطر، وكل جميل ارتكز وعيه كله على ما قاله الآخرون، ولم يحن بعد وقت أوبته إلى الأصول الأولى للذات، كما حدث لكل الكبار الذين لن يكون آخرهم د.زكي نجيب محمود رحمه الله (ت/1993م)– أن التدهور السياسي لدى العرب طوال التاريخ، سيتصل بشكل وثيق بتدهور وعيهم بالإسلام، وهذه حقيقة من حقائق التاريخ، نعيها ونعمل على وضعها في مكانها الصحيح في ميزان التاريخ.

إسلام الحقيقة المطلقة في يقين وصفاء، ورسوخ الفهم والإيمان بـ”إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ”، التي حينها سيكون الإنسان قد واجه إنسانيته بحق، وصار قادرًا على مواجهة موته براحة وطمأنينة، وسمع النداء لنفسه التي عاش بها على هذا الحق “ارْجِعِي إِلَىٰ رَبِّكِ رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً (28)”.

حينها سيكون على دفق الحياة الحقيقي، أن يتدفق بكل العذوبة، وبكل الصفاء، الحياة الأولى والحياة الآخرة.

مقالات ذات صلة:

نظريات علم الاجتماع على ميزان العقل

سلسلة شرح الفلسفة السياسية

انهيار الاتحاد السوفييتي .. قصة عجيبة

* تنويه: الأفكار المذكورة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع.

_________________________________

لمتابعة قناة اليوتيوب لأكاديمية بالعقل نبدأ، اضغط هنا

لقراءة المزيد من المقالات، اضغط هنا

د. هشام الحمامى

رئيس المركز الثقافي اتحاد الأطباء العرب – عضو الأمانة العامة والمجلس الأعلى لاتحاد الأطباء العرب – مدير الشئون الطبية بقطاع البترول