السلام مع النفس
“السلام النفسي” حالة من التوازن والوئام والتصالح مع الذات، وهذه الحالة هي الطريق الأمثل للوئام مع الناس.
في معركة الحياة التي نعيشها نجد التناقض والتضارب، وتتحقق السنَّة الربانية من وجود الثنائيات المتضادة: الحياة والموت، الصحة والمرض، الأمل والألم، العدل والظلم، الغنى والفقر، إلخ، وفي خضم هذه المعادلات المختلفة تظهر قوة الإنسان وضعفه، ويظهر مدى إيمانه ويقينه ومدى ضعف هذا اليقين، ولا ينجح في هذه المعارك الطاحنة إلا أصحاب النفوس القوية، المتصالحة مع ربها وذواتها، ومع من حولها.
ما هو السلام النفسي؟
إن السلام النفسي هو الطريق الأمثل لاكتشاف عيوب الذات ومعرفة طرق علاجها، وهو الطريق لاكتشاف مواهب النفس والوقوف على قدراتها، وهذه البداية لتحقيق السلام في العلاقات مع الآخرين، لأن السلام مع النفس يصل بصاحبه إلى السلام مع المبادئ والقيم، وهنا يجد الإنسان نفسه على الطريق الحقيقي إلى السلام مع من حوله في علاقاته، فلا تناحر ولا تباغض ولا حسد ولا تتبع لسقطات الناس وهفواتهم، فالبحث عن عثرات الناس ومحاصرتهم بها يعد خللًا في النفس، فكل إنسان منا مليء بالعيوب والهنات، ولا توجد نفس على ظهر البسيطة ليس فيها عيب سوى الأنبياء، فقد انتهت العصمة.
علينا بدلًا من أن نصرف أذهاننا في تتبع سقطات الناس، ولا نعطيهم فرصة الدفاع عن أنفسهم أن نعيش حالة التصالح مع الذات، فنعترف أننا أيضًا نخطئ ونصيب، وأننا لسنا معصومين، ولسنا ملائكة، فمن أنا ومن أنت حتى نجعل من أنفسنا أوصياء على عباد الله، نصنّفهم حسب هوانا، ونجعل من أنفسنا ملائكة ومنهم شياطين؟
إن الانسجام الداخلي وصفاء النفس هو الطريق الحقيقي للتخلص من أدران الذات، واعتدال الفطرة المنكوسة، وترك دنايا النفس من النفاق والتدليس والكذب والخداع.
كيف يمكن الوصول إلى السلام النفسي؟
إن رسولنا r)) حينما سأله أحد الصحابة أن يقول له قولًا لا يسأل عنه أحدًا بعده، قال له: “قل آمنت بالله ثم استقم”[1].
الإيمان في الحديث هو أساس التصالح مع النفس، لأن الإنسان المؤمن يعيش حالة سلام دائم أساسه التسليم والرضا والقناعة بعطاء الله وتقديره، ومن ثم فهو لا يتذمّر ولا يتضجر ولا يتشاءم، فيتحقق بهذا الانسجام الداخلي والتوافق مع الناس، وكذلك الصبر على أذاهم، ثم يأتي دور الاستقامة والاستمرارية على هذه الحالة الإيمانية الرقراقة.
إن الحياة مليئة بالمتناقضات والازدواجيات، يعيش بعضنا غنيًا وبعضنا فقيرًا، بعضنا صحيحًا وبعضنا عليلًا، بعضنا سعيدًا وبعضنا شقيًا، وهذه سنَّة الله في خلقه، ليختبرهم ويمحصهم، فعندما تكون في سلام مع نفسك سترضى بقدر الله فيك، ولن تشغل بالك بقدر الله فيمن حولك، وستعلم أن فقرك ومرضك وشقاءك هو ابتلاء لرفع درجاتك، والوقوف على صدق إيمانك، لأن الله –جل وعلا– لا يريد لعباده العذاب، ولا يجمع عليهم عسرين، “مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ وَكَانَ اللَّهُ شَاكِرًا عَلِيمًا”، النساء [147].
فعلى الإنسان أن يحاول دفع القدر بالأسباب الممكنة، ثم يرضى بما لم يستطع دفعه.
صور السلام النفسي
اعتدال الطبع
من صور السلام مع النفس اعتدال الطبع، فلا يتكلف الإنسان ضد طبيعته، أو يتمثل بما ليس فيه، فيكون منسجمًا مع نفسه راضيًا بقدراتها متوافقًا مع طبعه، فطبائع الناس مختلفة، فمنهم الهين اللين، ومنهم من تعتريه صلابة وشدة، ومعرفة الطبع الإنساني، وصنع السلام مع النفس –وعدم تكلّفها ما هو ضد طباعها، مع محاولة تعديل سلوكها والانتقال بها من حالة القسوة إلى حالة الرفق– هو البداية الحقيقية للراحة النفسية، شريطة ألا يخالف الإنسان بذلك شرع الله تعالى.
التغلب على وساوس الشيطان
السلام مع النفس هو الطريق لطرد وساوس الشيطان، والتغلب على ما يدعونا إليه، فالشيطان يأتي إلى الإنسان من مداخل متعددة، ومنها مدخل القناعة والرضا، فيصور له عجزه وضعف حيلته وفقره على أنه مقصور عليه، وأن من حوله ينعمون، وأن هذا مؤشر على أن الله لا يحبه، ومن ثم يغلق أمام ناظريه أبواب التوبة والأوبة، ويفتح أبواب العصيان والاعتراض، وهذا المدخل من مداخل الشيطان علاجه في السلام مع النفس، الذي يكون مفتاحًا لليقين بالله، وأن الله إنما يبتلينا ليرفع درجاتنا، فالاستسلام لوساوس الشيطان يكدر على الإنسان صفو حياته، فيعيش منكوس الفطرة، ويسير في طريق مقلوب معوج.
رأينا في زماننا هذا كيف كانت مداخل الشيطان ووساوسه –في هذا الاتجاه– سبيلًا إلى الفتن، وإلى بعد الناس عن دينهم، ومخالفة شرع ربهم، فجنوا على أنفسهم بقتلها (منتحرين) وجنوا على غيرهم فقتلوهم (متجبرين) بحجة الأمراض النفسية، وما هذا من ترك السلام مع النفس والبعد عن وساوس الشيطان ببعيد.
الإيمان بالقدرات الذاتية
تحصُّل الإنسان على حالة السلام النفسي مشروط بوجود ذاته، وبإيمانه بقدراته، وبعلمه أن الله تعالى ركّب فيه كثيرًا من مواطن القوة والتفرد، وأنه باستطاعته أن يتغلب على ضعفه ووهنه، وكم رأينا حولنا كثيرًا ممن ابتلاهم الله من ذوي الحاجة قد تغلبوا على ضعفهم وأثبتوا جدارتهم، وتحدوا الصعاب، وارتقوا سلّم المجد والشهرة، وما ذلك إلا لإيمانهم بقدراتهم وانتصارهم على ضعفهم.
التوقف عن جلد الذات
يضاف إلى هذا الإيمان “عدم جلد الذات”، بأن يظل الإنسان يعاتب نفسه على التقصير، ويكون مآله الاحتراق النفسي، وتحوّله إلى حالة من الاكتئاب والعزلة، فكلنا نخطئ، ونقع في حالات من الضعف والتفريط، لكن أن يستمر الإحساس بالذنب مرافقًا لنا، فنجلد كل حين ذواتنا، فهذا لن يدفع بنا أبدًا نحو الحركة والتقدم، بل سيجعلنا نقف مكاننا، نبكي على ماض منصرم لا نملك إرجاعه، وموقف حدث لا نملك تكراره لنعالجه، وشخص غدر لا نستطيع تغييره، وكلمة خرجت لا يمكن عودتها.
إن الواجب آنذاك أن نتوقف عن جلد الذات، ونسعى نحو المعالجة الممكنة، ونستغل الفرص المتاحة ونحاول تقويم سلوكنا، حتى نصل إلى طريق لحل مشاكلنا بدلًا من حالة البكاء الدائم والنحيب المستمر، وجلد الذات الذي لا ينتهي.
الابتعاد عن الكمال والمثالية
في الاتجاه نفسه لا بد أن يبتعد الإنسان عن ادعاء الكمال والمثالية، فكثير من الناس يرى نفسه على الدوام مثاليًا، لا يعترف بخطئه، ولا يقر بتقصيره، وكأنه من طينة أخرى، وهذا السلوك أيضًا سلوك مشين، لأن الكمال لله وحده، والعصمة لأنبيائه، وادعاء الكمال هو صنيع الشيطان الذي عصى ربه، متكبرًا على أمره، رافضًا الإقرار بأفضلية آدم –عليه السلام– عليه.
إن من واجب الإنسان السوي أن يقرّ بأخطائه ويعمل على معالجتها، ويتصالح مع نفسه، فيقبل النقد، ويحترم آراء الآخرين، ويتفاعل مع مشورتهم، ولا ينأى بنفسه في برج عاجي من الكبر والغرور والأنفة، ويتسامح مع من أخطأ، ويشكر من أعطى.
إن السلام مع النفس هو الطريق الأقوم كي تعيش سعيدًا بعيدًا عن كيد النفس والناس والشيطان.
[1]الراوي سفيان بن عبد الله الثقفي, صحيح مسلم – رقم( 38)
مقالات ذات صلة:
مفهوم الصحة النفسية وكيفية تعزيزها
* تنويه: الأفكار المذكورة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع.
*************
لمتابعة قناة اليوتيوب لأكاديمية بالعقل نبدأ، اضغط هنا
لقراءة المزيد من المقالات، اضغط هنا