مقالات

خلود جلجامش في عصر العولمة .. ولنا من روايات السابقين عبرة

الخلود وجلجامش

تذخر المجتمعات القديمة بالعديد من الملاحم ذات الطابع الأسطوري، والواجب علينا دراستها بعمق لفهم مغزى رسالاتها واستيعاب أهدافها بجانب الاستمتاع بالإطار السردي التشويقي بداخلها. ولعل من أبرز هذه الملاحم الأسطورية هي ملحمة جلجامش السومري.

وأبسط تعريف لمفهوم الأسطورة كما يعرفها فراس السواح في كتاب مغامرة العقل الأولى هي “حكاية مقدَّسة تقليدية تدخل فيها الآلهة أو أنصاف الآلهة، وقد حدثت في الأزمنة الأولى المقدَّسة، فهي عبارة عن سجل لأعمال الآلهة، وهي حكاية تقليدية لأنها تنتقل من جيل إلى جيل شفاهة، فالأسطورة هي ذاكرة الجماعة، ولها قوة وسيطرة على النفوس التي تؤمن بها، وكانت تتلى في الاحتفالات الدينية العامة”. ومن أبرز الأمثلة على هذا التعريف أسطورة أودين في شمال أوروبا، أو تمثيلية منف في الحضارة المصرية القديمة.

بعض هذه الملاحم الأسطورية حالفها الحظ ونقشت وسجلت على المعابد وألواح أدوات الكتابة في وقتها، لتكون دليلًا قويًا على حكمة أصحاب هذه الحكاية وليستدل من مضمونها على القيم المعنوية والأخلاقية المراد تمريرها للأجيال القادمة أكثر من كونها حكايات تسرد في جلسات السمر أو حدوتة ما قبل النوم للأطفال في الوقت الحالي، فلربما تشهد (الخلود) وتستمر كما استمرت حكاية جلجامش التي سجلت باللغة المسمارية على ألواح طينية في العراق وكان اكتشافها ذا قيمة أثرية عظيمة.

إذن فإننا مما سبق نستنتج أن جلجامش السومري قد سعد وانشرحت نفسه من (خلود) حكايته واكتشافنا من مضمونها للحضارة السومرية في العراق، فمن يكون جلجامش في عصر العولمة الآن؟ وما هي حكايته وما المغزى والرسالة من حكايته؟

اضغط على الاعلان لو أعجبك

وقبل البدء في الإجابة أرجو يا صديقي العزيز أن تلحظ أن كل كلمات (الخلود) السابقة والحالية قد جاءت بين قوسين وهذا ليس بالخطأ المطبعي؛ وإنما كتمهيد وتسهيل للإجابة عن هذه الأسئلة، فالإجابة تدور بالفعل حول كلمة (الخلود). وسنعاود الإجابة بشكل كامل فلا تقلق يا صديقي.

فاختلاف المفهوم الآن بين معنى (الخلود) فيما بين جلجامش السومري وجلجامش في عصر العولمة هو مفتاح اللغز والضوء الكاشف أيضًا لاختلاف مغزى الملاحم والأساطير القديمة؛ ففي السابق كانت القصة بهدف التعلم وفهم غايات مختلفة كالهدف من الحياة وقيم كالحق والجمال، أما في عصر العولمة فقد طغت المكاسب المادية وزادت حمى الاكتشافات الأثرية ليس لغاية التوصل لعلم ينكشف مع انكشاف مسارح حديث هذه الحكايات أو اكتشاف مقابر أو معابد غاية في الأهمية، وإنما لغاية كسب المجد الشخصي واحتكار مكاسب مادية من وراء هذه الاكتشافات، مثل عقد احتكار جريدة التايمز البريطانية للكشف منفردة دون غيرها لمحتويات مقبرة توت عنخ آمون، والذي كان من الاكتشافات الهامة والتي يتطلع العالم بأسره لفك غموضه .

هتلر النازي من قارة أطلانتس المفقودة!

ولعل من أبرز الحكايات التي خرجت عن أهدافها المجردة هي قارة أطلانتس المفقودة، فاشتدت حمى البحث عنها وعن كنوزها المدفونة منذ عام 1940 تقريبًا، ونُسجت عنها حكايات عن أماكن وجودها وعن اتصال سكانها بالمخلوقات الفضائية وإسهاماتهم التي شملت كل الحضارات القديمة مثل حضارات المايا والحضارة المصرية القديمة.

يعتبر أكبر دليل يستند إليه الباحثون عن القارة المفقودة أطلانتس هو محاورات أفلاطون “تيماوس وكريتياس” ووصفه لهذه القارة بكل دقة والذي نقله بدوره عن كهنة مصريين كما ذكر في المحاورة، فقد وصف أفلاطون أطلانتس بالمدينة العظيمة والفاضلة التي جعلت قوتها في عدلها وأخلاقها، إلا أنها انحرفت عن بوصلة الحق وغرق أهلها في الملذات والشهوات وقادتهم مفاهيمهم الخاطئة لفقد الغاية من وجودهم إلى غضب الآلهة عليهم، فكان العقاب بالغرق بعد كارثة طبيعية واختفاء آثارهم حتى الآن.

مشهد الغرق يصفه أفلاطون ببركان كبير أججته وأشعلته أخطاء سكان أطلانتس، مشاهد متعددة في هذه الحكاية تحتمل العديد من الإشارات منذ بدأ التكوين حتى الغرق والاختفاء، وبشكل أعم فقد اعتمد عليها أفلاطون ليتصور مفهومًا لـ “المدينة الفاضلة” بشكل مجرد ورمزي.

فمثلما توصل جلجامش السومري لمعنى الخلود، تصوره أفلاطون بقصة المدينة الفاضلة أو أطلانتس التي لم تدرك أن خلودها قائم بالأخلاق وأن المجتمعات تفسد بفساد أهلها وتغرق بغرق جماعاتها في الشهوات.

ولكن الأحلام لم تفارق المستكشفين بحثًا عن أطلانتس المفقودة من زمن طويل، وارتبط اسمها بكل من جنح به الخيال العلمي واختلاق كافة الأساطير عنها أو عن موقعها المفقود أو ربطها بظواهر فلكية مختلفة أو حوادث اختفاء للسفن والطائرات فوق المحيط الأطلسي، فالكثير من الأفلام الوثائقية التي تتطرق لأطلانتس تكشف السعي المحموم لفك هذا الغموض، إلا أن أكبر المفاجآت التي أصابتني بالدهشة عندما علمت أن هتلر قد خاض سباق الكشف عن أطلانتس بغرض عرقي، فلقد أرسلت جمعية نازية اسمها “اتولا” حملات استكشافية للبحث والتأكيد أن منشأ العرق الآري هو من أطلانتس.

جلجامش السومري والبحث عن الخلود

أما عن الإجابة عن التساؤلات السابقة، فكان جلجامش حاكمًا لمدينة عظيمة تسمى أوروك، يحكمها كثلثي إله وثلث بشري فانٍ، فطمع أن يتغلب على ثلثه البشري الفاني ليخلد في الحياة كما هي حياة الآلهة، ومما عزز رغبته في الخلود حزنه الشديد لوفاة صديقه “أنكيدو” والذي رفض جلجامش دفنه حتى خرج من جسده الدود، وفقد جلجامش وزنه وزهد حياة المدنية واتخذ من جلود الحيوانات رداءً له.

رحلة من الحزن والاكتئاب تسطرها هذه الملحمة الرائعة والتي تحتوي على العديد من المسائل الفلسفية والفكرية القيمة، وبسرد بسيط لهذه الملحمة والتي لا تغني عن دراستها كاملة، فجلجامش الذي ورث بسطة الجسد وقوته المفرطة من تزاوج أمه الإلهة “ننسون” من بشر فانٍ، رحلة مفادها ظلم وقهر موجع لأهل أوروك حتى إن الأسطورة تقول بأنه لم يترك عذراء في المدينة لم يغتصبها، ظلم بلا معنى يقود لغضب الآلهة فيخرج له “أنكيدو”، فتدخل الرحلة في طور جديد من الصراع والعداوة بينهما ثم صداقة حميمة شملت أقصى أنواع الوفاء والتضحية بين الأصدقاء، فيموت “أنكيدو” فيشتد حزن “جلجامش” عليه وتؤجج لديه الرغبة أكثر في البحث عن الخلود كالآلهة والخوف من الموت وفقد الحياة.

الخلود يتحقق في العدالة

فيغادر “جلجامش” أوروك ويبدأ طريق سفر طويل بحثًا عن الإنسان الخالد الوحيد في هذه الأسطورة “أوتونبشتم”، وهو الذي نجا من بعد الطوفان الذي أغرق الأرض، تمامًا كطوفان سيدنا نوح، فيقابل جلجامش بعد رحلة سفر طويلة وبالغة الصعوبة، ويدل “أوتونبشتم” جلجامش على نبتة تحقق له الخلود المنشود، وفي طريق عودة جلجامش لأوروك تسرقها منه حية، فيصاب جلجامش بخيبة أمل كبيرة وينوح على حاله، ثم يعود أدراجه لمدينته ويدرك أخيرًا أن خلوده يتمثل في العدل في الحكم.

انتهت رحلة جلجامش وانتهت حكايته بإدراكه أن غاية الخلود هي العدل في الحكم وليس بالبقاء مدى الحياة، فمتى يدرك الإنسان في عصرنا الحديث هذه الغاية ويكون مثل جلجامش في عصر العولمة المدرك أن الحياة هي وسيلة وليست غاية ويتجرد من كل مظاهرها المادية التي تتسافل به وتزيد من معاناته، فغاية الخلود تبتعد كلما ابتعد الإنسان عن فهم حقيقة الوجود.

 

المزيد من المقالات:

 ذئاب الجبل.. هل المسلسلات القديمة فقط هي من تدعو للحكمة و القيم الفاضلة؟

الكوميديا ودورها الهام في الغزو الثقافي

أنا مين فيهم.. أفكاري وليدة الظروف والبيئة أم وليدة الوعي والفهم ؟

 

أحمد صالح

عضو فريق مشروعنا فرع القاهرة