البحث عن نبي!
ثمة عالِمٌ كان له أتباعٌ ومريدون، يأتونه دومًا طالبين علمه وحكمته، مسترشدين برأيه فيما أشكل عليهم أو التبس على فهمهم، وذات هفوة وقع الرجل في ذنبٍ كبير، فانفضّ الناس من حوله، وأدار له الجميع ظهورهم متندرين بوقوعه في ذنبٍ كهذا. وذات يوم، وبينما كان الرجل وحيدًا في بيته، إذ طرق بابه طارق، فلما طالعه وجده صبيًا ممن كانوا يقصدون مجلسه، وطلب الصبي منه أن يسمح له بالدخول والتعلّم منه.. سأله الرجل متعجبًا: “ولماذا لم ترحل مع من رحل؟”، فأجابه الصبي قائلا: “لأني لم أتبعك على أنك نبي !”.
زمن الأنبياء قد ولى وانقضى
لقد فهم الصبي ما لم يفهمه الآخرون، بل وما لم يستطع العرب أن يتخلوا عنه رغم تأكيد دينهم الحنيف منذ قرون أن زمن الأنبياء قد ولى وانقضى، وأن ليس بيننا –ولن يكون معنا –من هو معصوم من الوقوع في الخطأ والخطيئة والزلل!
هكذا ظل العرب مفتونين بهواية، بل بغواية، البحث عن نبي ، اختلط لديهم الديني بالدنيوي، والحياتي بالأخروي، والمقدس المعصوم بالسياسي المذموم، وراحت منظوماتهم الإدارية العامة تنبني داخل الخاص الديني وتتجذر فيه؛ فما أن يعتلي أحدهم منبرًا أو يتولى منصبًا ولو كان صغيرًا لا قيمة له، حتى يصبح هو «صاحب الرأي»، لا «صاحب رأي».. يغدو راسمًا للمنهج، ناطقًا بالحقائق، ممسكًا بلآلئ الحكمة!
وكما أن لكل نبي حواريين، فإن لكل مسؤول مطبلين؛ فلئن أصاب بات بطلا مؤتيًا للمعجزات وصانعًا للتاريخ، ولئن بنى بالوهم قصرًا في الهواء راح المطلبون يحثون الناس على التبرع بالأثاث، ولئن غادر المنصب غادره الجميع! إنها المعضلة التي تستعصي على الحل!
تشبث بإنسانيتك
في العالم العربي فقط، وفي معية هذه المُعضلة، يبحث الجميع عن لقب: أستاذ، دكتور، مهندس، مُفكر، شيخ، باشا، بيه، نجم، عمدة، مولانا، كابتن، ريس.. إلخ، فضلا عن مقدماتها الضرورية: سيادة، معالي، فضيلة، سعادة، حضرة.. إلخ. وإذا لم يجد العربي البسيط أو الجاهل صاحب المال لقبًا قام ببساطة بأداء العُمرة ليكتسب لقب (حاج)، حتى لقد أصبحت لدينا حصيلة من الألقاب لو كان حاملوها يستحقونها بالفعل لأصبح العرب سادة العالم.. الغريب أننا نفتقر لمن يبحث عن لقب (إنسان)، إلا من رحم ربي! تُرى ما تفسير ذلك؟
هل تجاوزت إذن مراحل الدهشة والغثيان والقنوط إلى مرحلة اللا مبالاة؟ هل رأيت الجهل يمشي مختالا في أروقة المدينة، يُسامر الوهم على النواصي، ويصافح الكذب فيعلو وينتصر؟
هل أدركت أن الحمقى والرويبضات وبائعي الضمائر ومرضى العقول هم الكثرة الغالبة، وأن الحماقة بعينها هي ألا تنضم إلى حشد السُكارى؟ هل أيقنت أن ضخامة حجم الفساد وقدرته البالغة على التشكل تحولان دون أية محاولة لمواجهته؟
حسنًا، هذا ما يريدونه، أن يستلبوا كيانك الواعي، كينونتك العاقلة، أن تسأم الحيرة بين ما تتوق إليه وبين ما لا طاقة لك على رفضه، فتلتحم صاغرًا بمشهدهم المسرحي البائس.. ثمة مساحة ما زالت ممتدة بينك وبينهم فاحرص على ألا تعبرها، تشبث بإنسانيتك لئلا تُستلب إلى ما يريدون، وإن اتهموك بالجنون!
اقرأ أيضاً:
الألقاب العلمية في بلادنا العربية
* تنويه: الأفكار المذكورة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع.