مقالات

في النهايات.. تكون البدايات

سنرى الفارق الكبير بين نظرة الغرب الصهيوني لنهاية الحرب في غزة، ونظرة المقاومة الإسلامية وفق الاتفاق الأخير، في موقف بالغ التمييز وبالغ الروعة وبالغ الدلالة، وهو للمفارقة يتصل بسيرة سيدنا إبراهيم الخليل، الذي سيتخذون من اسمه عليه السلام بوابة جديدة لسلسال الخداع والمكر الطويل، الذي سئم منه تراب الأرض وسحاب السماء، ويتهيأون به للمرحلة القادمة من هذا الصراع.

وقصة الاتفاق الإبراهيمي أشهر من أن تُعرّف، وهم قد بدأوه من ولاية ترامب السابقة، وما دخول صهره كوشنر فجأة على الخط الحالي، إلا في محاولة بائسة لإعادة هذا الاتفاق.

وسواء كان حفظًا لماء وجه كوشنر، الذي كان مادة للسخرية الملتهبة بعد طوفان الأقصى، وتحوُّل مساعيه السابقة كلها إلى خيبات مضحكة، أو كان لإخفاء الطوفان من ذاكرة الوعي بالحقائق، وهو الوعي الذي تتسع دوائره في العالم كله الآن، وليس في العالم العربي والإسلامي فقط. أيًا ما كان، فسيرة سيدنا إبراهيم أشرف وأسمى من أن تُتَّخذ بوابة لمكر الماكرين، وهو الخليل أبانا الذي سمانا “المسلمين” كما ذكر النص القرآني (سورة الحج 78).

الفارق الذي تحدثنا عنه أولًا سنراه واضحًا، في موقف من المواقف العزيزة جدًا جدًا على بني الإنسان، موقف فيه الحقيقة والعاطفة والحنين والرجاء والأمل والمسامحة والمراجعة (مراجعة من جاءوا رسلًا من الملأ الأعلى) وفيه البشرى، وأخيرًا فيه تلك الصلة البديعة الباهرة بين عالم الغيب وعالم الشهادة في الحضور الإنساني.

وسنرى كيف..

اضغط على الاعلان لو أعجبك

فما أوردته أسفار العهد القديم (سفر التكوين)، وما ورد في القرآن الكريم عن ضيوف سيدنا إبراهيم عليه الصلاة والسلام سيكون فارقًا بالفعل ضخمًا وهائلًا وبالغ الإشارة والتنبيه.

فهم في التوراة يأكلون ويشبعون من الطعام! لكنهم في القرآن الكريم لم يأكلوا ولم يشبعوا، بل جلسوا إلى الطعام، ولم تصل أيديهم إليه.

وطلب منهم سيدنا إبراهيم أن يأكلوا فلم يأكلوا، وأوجس منهم خيفة، ثم ما لبث أن علم أنهم ليسوا بشرًا، وأن لهم حالًا آخر غير الضيافة والطعام.

يقول الأستاذ العقاد: أن هذا الموقف يمثل نقلة نوعية هائلة في تاريخ بني الإنسان، نقلة تفوق الانتقال ما بين عصر الحجر وعصر النحاس وعصر الحديد.

إنه الانتقال الذي يؤرَّخ به عصران في تاريخ الإنسانية. الانتقال بين العقل الذي لا يمكنه إدراك مخلوق سماوي يخالف الأجساد الحية في المطالب المادية، والعقل الذي يميز تمييزًا تامًا بين الوجود الروحي والوجود المادي، ويعيش فيهما معًا.

ورحم الله المعلم علي عزت بيجوفيتش صاحب جملة: “الصلاة هي الاختصار الكودي للإسلام كله” إنها وحدة الروح والمادة.

هذا الانتقال شهدنا مشهده العظيم طوال العامين الماضيين في غزة، في حرب لم تشهد العصور الحديثة حربًا مثلها في تكافؤ القوى بين طرفين:

أحدهما يقف وراءه العالم الغربي بما تحويه ترسانته كلها من القوة المادية؛ عسكرية ومخابراتية وإعلامية.

وطرف آخر، قرر بقرار من عمق أعماق روحه أن يبادر لتغيير الواقع الكريه المرفوض، الذي ما عاد يُحتَمل في البغي والظلم والجور، واستند في قراره إلى “القوة الروحية” بما تمثله كله من مصداق الحق الكامل، وكمال اليقين؛ علمًا وعينًا وحقًا، متخذًا من قوله سبحانه “ما استطعتم…” سندًا بيّنًا في إعداده وتجهيزه لهذه المواجهة.

ليس فقط لأن معادلة تكافؤ القوى لا مكان لها في مثل هذه المواقف التاريخية الكبرى، التي تتصل فيها الأرض بالسماء، وليس لأن أول مواجهة مع الباطل في تاريخ الإسلام، كانت مواجهة “الفئة القليلة”، لكن وهو الأهم لـضرورتها الحتمية زمانًا ومكانًا، وهذه تفاصيل أكثرها مخفي، وستتكشف لنا تباعًا في الزمن المقبل، بعد أن ينجلي الغبار، ويبدأ كوشنر وبلير في تجهيز الطاولة وتحضير “الثلاث ورقات”، ويغرقا في الفراغ والأثير مع الصيرورة التي ستبتلعهم في جوفها العميق.

ذلك أن الأوان قد فات، ومن أكثر مواقف الدنيا هزلًا وهزؤًا أن تسعى في طلب شيء قد فات أوانه.

وما كان طوفان الأقصى بالأساس إلا لتدشين تاريخ جديد، عصر جديد، أوان جديد، فهم جديد، وعي جديد، حقائق جديدة، موازين جديدة، بل ورجال جدد.

وسنرى في حلقة الرجال الجدد بونًا شاسعًا بين ما كان وما هو كائن وما سوف يكون على مستوى الفكر والفهم والحركة، وسنرى أثبت الأقدام وأرسخها في دفع عجلة التاريخ  في الاتجاه الصحيح.

والرعب كل الرعب لديهم في تمدد هذا الفهم وانتشار مريديه وتعدد أوراده بتعبير أهل الطريق، لقد سقط تمامًا حاجزهم المنيع بين الممكن والمستحيل. وهذا هو عين الحال الذي يسعى إليه الإنسان الصالح الذي سجد واقترب وأحب، وهذا هو رعبهم الهليع عند النظر إلى مستقبل الشرق الأوسط.

وأكثر المواقف التي تدعو للتبسم الساخر في هذا الصدد هو الحديث المكرور، عن نزع سلاح حماس!

كأن حماس كانت تحاربهم طوال السنتين الماضيتين بأخطر الأسلحة التي يتوجب نزعها فورًا، مثل ألمانيا واليابان بعد الحرب العالمية الثانية كما قال أحدهم!

حماس كانت تحاربكم أيها الأذكياء بـ”إرادة وروح وعزم ويقين” لا علاقة لكم به، ولا علاقة له بحساباتكم (تذكروا ضيوف سيدنا إبراهيم).

هذا ليس دربًا من دروب الدروشة، إنه الحقيقة في أم عينها، بالمقاييس العسكرية المجردة أنت لم تستطع تحقيق هدف واحد من أهداف حربك اللعينة، ولن تنال منالًا واحدًا إلا بالتفاوض، وأمامه ثمن ومقابل.

إسحاق بريك قال لهم تعليقًا على الاتفاق الأخير: “نخوض منذ عامين حربًا في غزة دون أن نحقق أي هدف من أهدافها، التهديد والعزلة التي تحيط بنا يتزايدان مستقبلًا، ولا نبني أي قدرة عسكرية لمواجهة ذلك، خسرنا مئات المقاتلين وآلاف الجرحى وعددًا من الرهائن الذين لقوا حتفهم في الأنفاق”.

إسرائيل هي الخاسر الأكبر من عدم توقيع الاتفاق مع حماس.

أما دكان الكلام التي افتتحها نتنياهو من اليوم الأول، فهي مليئة بمساخر المسخرة ولا موليير في عز عصر لويس العاشر عشر!

ليس فقط للمتناقضات المضحكة التي تعج بها، وليس فقط لتكرارها الممسوخ، لكن لأن الواقع الذي يتهيأون لمواجهته في الداخل والخارج لن يسعفهم فيه سوى أرخص بضاعة، بضاعة الكلام.

لكن جردة الحساب التي تنتظرهم ستكون أعقد من كل مكلمات القمم العربية طوال 70 سنة فاتت.

بعد طوفان الأقصى، ستكون البدايات الحقيقية لهذا الصراع في توازنه الجديد، الذي فرضته المقاومة فرضًا وانتزعته انتزاعًا بدماء لا حصر لها، وصبر لا مثيل له، وبطولة لا نظير لها. وستبدأ فعليًا، من اليوم الأخير من نهايات هذه الحرب.

وانتظروا الجيل الجديد من المقاومة.

مقالات ذات صلة:

كيف سيؤثر تراكم آثار حرب غزة على المدى الطويل

كلمة غزة تعني القوة

بِدء التآمر بـ”الملحمة”

* تنويه: الأفكار المذكورة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع.

_________________________________

لمتابعة قناة اليوتيوب لأكاديمية بالعقل نبدأ، اضغط هنا

لقراءة المزيد من المقالات، اضغط هنا

د. هشام الحمامى

رئيس المركز الثقافي اتحاد الأطباء العرب – عضو الأمانة العامة والمجلس الأعلى لاتحاد الأطباء العرب – مدير الشئون الطبية بقطاع البترول