فن وأدب - مقالاتمقالات

طه حسين وكفى

يكفي أن نقول “طه حسين” دون أية ألقاب لترهف الأسماع وتنتبه الأذهان للحديث عن رجل ملأ الدنيا وشغل الناس، فعميد الأدب العربي الأستاذ الدكتور “طه حسين” نموذج للشخصية المصرية الصابرة المثابرة التي خرجت من صعيد مصر لتشغل زمنها بما قدمت من آراء وأفكار أخذت طريقها نحو التنوير، ولئن تصادمت آراؤه مع بعض الثوابت وأثارت الجدل والتثاقف بشأنها فهذا علامة من علائم الزخم الفكري المفيد الذي قدمه “طه حسين” للبيئة الثقافية في العالم العربي آنئذ.

من هو الأديب طه حسين؟

وإن تعجب عزيزي القارئ فعجيب أمر هذا الرجل الذي ترك أهله وبصره في صعيد مصر ليواجه الدنيا الجديدة في القاهرة، بل ليواجه العالم الجديد في باريس دون إشفاق أو وجل، فقد كان ذا عزيمة صلبة لا تلين وإرادة قارّة لا تتحول إلا أن تبلغ مرادها، فعانى ما عاناه من ملمات الأمور وشدائد الأيام ولم يثنه عن تحصيل العلم وبلوغ مراده شيء.

ولأنه عرف قيمة العلم للإنسان فقد قدمه للناس كلهم، إذ عندما تولى مقاليد وزارة التربية والتعليم جعله مجانًا متاحًا لأبناء الشعب المصري كافة بعد أن كان وقتئذ حكرًا على طبقة مخصوصة من الأغنياء، وصدق حين قال: “إن العلم للإنسان حق كالماء والهواء”، فأقر مجانية التعليم إلى المرحلة الثانوية، ثم جاءت ثورة 1953 فأقرت مجانيته إلى المرحلة الجامعية.

لقد حار قلمي حين أردت الكتابة عن أدب “طه حسين”، فنتاجه متنوع وأسلوبه أخّاذ، ونحن نقرأ له فيمتعنا غاية المَتَاعة، ويأخذنا إلى عالمه دون تكلف أو عناء، وإذا هو يصب من نفسه في نفوسنا ومن إحساسه في إحساسنا ومن معجمه في معجمنا ومن أسلوبه في أسلوبنا ومن بيانه في بياننا، وإذا نحن لسنا كقبلنا، ولمَ لا وقد طوعت له الكلمة وجرست عنده الألفاظ وتوددت إليه العبارات وعذب عنده الخيال، حتى بلغ الطبقة الأولى من طبقات الكتّاب المجيدين في العصر الحديث.

مؤلفات الأديب طه حسين

هاك عزيزي إجمالة عن أدب الرجل الذي تنوع ما بين السيرة الذاتية في روايته “الأيام”، وسيرة غيرية اختصها بالكتابة عن جانب من حياة النبي الكريم سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم في كتابيه: “على هامش السيرة، والوعد الحق”، وهما الكتابان اللذان قال عنهما طه حسين إنهما أحب كتبه إليه، فقد كتبهما بإخلاص شديد، وما بين مقالات متنوعة عن الحياة الاجتماعية في مصر وذلك في مثل كتابه “حديث الأربعاء”، الذي كان مقالات مفردة نُشِرت في صحيفتي السياسة والجهاد في كل يوم أربعاء ثم جمعها في كتاب واحد، وما بين آراء صادمة كتبها في كتابه “في الشعر الجاهلي” الذي صودر في بداية أمره لما يحتوي من آراء مخالفة لإجماع الأمة اللغوية والإسلامية، مما جعله يعدل فيه عن بعض آرائه ويعيد نشره مرة ثانية بعنوان: “في الأدب الجاهلي”، وما بين رؤيته للحالة الثقافية في كتابه “مستقبل الثقافة في مصر”، وقد انبرى كثير من العلماء على رأسهم العلامة مصطفى صادق الرافعي للرد على آرائه تلك في كتابيه هذين، وما بين روايات اجتماعية جعلها نقدًا للحياة المصرية وذلك مثل رواياته: دعاء الكروان، شجرة البؤس، الحب الضائع، المعذبون في الأرض، ما وراء النهر، وغير ذلك كثير من رواياته الإصلاحية، وما بين كتب فكرية مثل كتابه “قادة الفكر” الذي تحدث فيه عن أن الحضارة اليونانية هي أصل الحضارة الأوروبية، كما تحدث فيه عن أهمية الشعر للإنسان فهو يعبر عن إحساسه ومشاعره، وما بين ذكرياته التي ضمنها كتابه “في الصيف”، وهو مجموعة من الرسائل التي كتبها متحدثًا عن أوروبا في أثناء رحلته صيفًا عام 1928م، وتناول هذا الكتاب وصفًا لرحلته في البحر، والأثر الذي تركته في نفسه، كما سرد ذكرياته لرحلته الأولى إلى فرنسا، بالإضافة إلى تطرقه إلى ذكرياته في الأزهر وشبابه الذي قضاه برفقة أصدقائه، وهم ينتهجون نهج الأستاذ الإمام محمد عبده في الحركة التحررية العقلية، وما بين أحلامه التي ضمنها كتابه “لحظات” وقد عرض فيه حلمه في اندماج الحضارة الشرقية بالحضارة الغربية، وقدم فيه نماذج للآداب الغربية بغية أن يتذوقها الشرقيون وتكون سبيلًا جديدًا للأدب الشرقي.

اضغط على الاعلان لو أعجبك

إسهاماته في الترجمة

على أن نتاج أديبنا العالمي لم يتوقف على التأليف الإبداعي فقط، بل له إسهامات في مجال الترجمة منها ترجماته: نظام الأثينيين لأرسطوطاليس، وقد صدر عام 1921م، وأندرو ماك لجان راسين، وزديج لفولتير، ومن الأدب التّمثيليّ اليونانيّ لسوفوكليس، وروح التّربية لغوستاف لوبون، وأوديب وثيسيوس من أبطال الأساطير اليونانية لأندريه جيد.

طه حسين .. عميد الأدب العربي

وبعد، فهذا قليل من كثير يمكن أن يكتب عن “طه حسين”، التي بينت كتاباته أن الأدب أكثر فلسفة من التاريخ، وأن فنون السيرة الذاتية تعنى بالصياغة كما تعنى بالفكرة والموضوع، ولا تحصر نفسها في محض سرد الأحداث، بل يصاحب هذا السردَ أدبياتٌ من شأنها أن ترتقي بالعمل فلسفيًا وفنيًا، وهذا ما اتسمت به روايته “الأيام”، فهي ليست محض رواية تحكي سيرة بقدر ما هي اندماج بين فن الأدب وبناء الذات، ونستطيع أن نتبين ذلك عبر سلاسة السرد الحكائي، وحسن العرض للأحداث، والألفاظ الموجزة المكتنزة، والعبارات الموحية، والأسلوب القائم على الازدواج والسجعة الرشيقة غير المتكلفة، كما جاءت سيرته وثيقة فكرية تدل على ما اكتنز عقله من أنواع العلوم والمعارف، وفي الوقت ذاته تثبت ما بذل من جهد في سبيل الوصول إلى ما اطمأن له.

رحم الله “طه حسين” وأجزل له المثوبة على ما قدم للأدب العربي وللثقافة العربية من أدب وفكر ما زالت أنهارهما تروي كل ظامئ وتصقل كل متعلم.

اقرأ أيضاً:

الابتكار الأدبي

العناق الأبدي بين الأدب والعلم

هل النقد الأدبي معرفة؟

* تنويه: الأفكار المذكورة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع.

_________________________________

لمتابعة قناة اليوتيوب لأكاديمية بالعقل نبدأ، اضغط هنا

لقراءة المزيد من المقالات، اضغط هنا

د. عبدالله أديب القاوقجي

مدرس بكلية اللغة العربية جامعة الأزهر