المبرمج الشاعر العناق الأبدي بين الأدب والعلم .. الجزء الأول
يُثار في بلادنا هذه الأيام حديث يدعو للعجب، ينظر فيه أصحابه إلى العلوم الإنسانية باستخفاف، أو يرونها عبئًا ثقيلًا على ميزانية تعليم تدفع الأسرة المصرية أغلبها، ثم على المجتمع فيما بعد حين لا يجد دارسو هذه العلوم فرص عمل، كأن التعليم محض أداة للتوظيف، وليس وسيلة للوعي والترقي والفهم والتحضر والتعايش أيضًا.
هناك من يعتقدون أن الحاجة إلى العلوم الطبيعية أو البحتة لا تؤدي تلبيتها إلى اهتمام بالآداب والفنون، بل ينظر هؤلاء إلى الشعر والروايات والقصص والمسرحيات على أنها محض كلام، وإلى الرسم والنحت على أنه زينة يمكن الاستغناء عنها.
فهل هذا صحيح؟ وهل يمكن الفصل بين العلم والأدب؟ أم أن بينهما عناق أبدي وتبادل منافع؟ وهل صناعة مبرمج يكسب مالًا طائلًا لا تشترط أن يكون لديه فكر أو خيال؟
جدل العلاقة بين الأدب والعلم
أقول ابتداء، في معرض إجابتي عن هذه الأسئلة كلها، إنه رغم أن كثيرًا من نقاد الأدب يتوسلون بعطاء العلوم الإنسانية في فك شفرات النصوص الأدبية وتأويلها وتحليلها فإن بعضهم يجفلون من أن يكون الفن منطويًا على أفكار، وينزعون بالكلية إلى فنون محضة، خالية من أي فكرة، وبعيدة عن أي عطاء علمي، كأن هذا من الممكن تحقيقه بالفعل، أو حتى ممكن وجوده في الواقع المعيش.
يتكئ هؤلاء في حكمهم على أن الفن ذاتي، وتحضر فيه الصنعة ووسيلته الحدس والوجدان والبصيرة ويتغير بتغير المستعمل ويبحث عن الجمال، وهو يتناول الحياة كما نتمنى أن تجري أو نتخيل جريانها، وينشغل بالصورة الإجمالية أو الكليات. أما العلم فهو جماعي ويحضر فيه الحكم الجازم، ووسيلته العقل، ويبحث عن المنفعة، وهو قابل للقياس، ويتناول الحياة كما تجري، وينشغل بالتفاصيل الدقيقة.
على هذا المنوال، تشارك الفلسفة الفن في هذه النظرة عند هؤلاء النقاد، إذ إنها تنزع هي الآخرى إلى الذاتية، ففي نظر الفيلسوف والأستاذ بجامعة السوربون “مرسيل كونتش” فإن كل فلسفة نتاج صاحبها، على العكس من النظريات العلمية البحتة التي ليس بوسعنا أن نقول إنها نتاج صاحبها لوحده.
فالفلسفة يتسع موضوعها متحللًا من ضيق يقتضيه طرح فروض ما لإثباتها أو نفيها، و”لها إطارها النسقي أو المذهبي الشامل الذي بوسعه أن يسترفد مادته من العلم والتاريخ والفن والتجارب الشخصية، وما يمكن أن يُستخلص منه تجريد أو تعميم كله، ويلتئم في مركب متسق، أو وحدة نظرية”.
الإبداع في الفن والفلسفة
لذا نقول “فلسفة أفلاطون” و”فلسفة ديكارت” لكن لا يمكن أن نقول الميكانيكا الكوانتية نتاج هايزنبرج وحده، لا سيما أنه قد أقر بهذا حين قال في مقدمة أحد كتبه: “من المباحثة تشكلت مادة هذا الكتاب الذي يحاول أن يُفهِم القارئ كيف يتشكل العلم من المباحثة”.
يمضي كونش متسائلًا: “هل في إمكاننا تصور أن ديكارت ألف كتاب (مقال في المنهج) بعد أن يكون قد تباحث مع هذا أو ذاك؟ فأقوال ديكارت نفسه تبين أن الأمر كان على العكس من ذلك تمامًا. فهو يقر بعزلته في ألمانيا حين كان يكتب كتابه هذا، الذي ساهم في تغيير وجهة العقل الأوروبي، وكيف أنه كان يختلي بنفسه في غرفة ليتفرغ للتباحث مع أفكاره”.
لكن الدراسات النقدية بخصوص “التناص”، بخاصة ما أنتجته الأديبة وعالمة اللسانيات والنفس، الفرنسية من أصل بلغاري، جوليا كريستيفا، وكذلك الدراسات النفسية عما يستقر في “اللا شعور” ويؤثر فينا ويخرج منا، في المواقف والمواضع والتفكير، بوسعهما أن تجعلا مسألة “الذاتية” المحضة في الفن أو في الفلسفة أشبه بالوهم، اللهم إلا إن كنا نتحدث عن الأمر من زاوية نسبية، فنقول إن نسبة الإبداع الذاتي في الفن والفلسفة أكبر بكثير من نسبتها في العلم الذي يقوم على المباحثة والتراكم.
يتبع…
مقالات ذات صلة:
العلوم النظرية والعلوم التطبيقية.. أيهما أهم؟
النقد الفلسفي بين تشكيل الذات وتأزم الواقع
* تنويه: الأفكار المذكورة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع.
_________________________________
لمتابعة قناة اليوتيوب لأكاديمية بالعقل نبدأ، اضغط هنا
لقراءة المزيد من المقالات، اضغط هنا