مقالاتقضايا وجودية - مقالات

أنا مش أنا!

ثقافة اختزال

الواقع حولنا اليوم هو واقع اختزال . فكل شيء يتم اختزاله في بعض مظاهره أو جزئياته لدرجة تجعلنا محاصرين داخل هذه الاختزالات والمظاهر والجزئيات التي تمنعنا من إدراك كل جوانب الموضوع عند تحليله أو معالجته فكريا. فالمدرسة كمثال تم اختزالها في بعض المظاهر مثل اللغة الأجنبية والزي المدرسي الأنيق واللكنة المتعالية في الكلام مع بعض المصطلحات “الفرانكو أراب” التي نستدل بها على مدى تأثير المدرسة وتغييرها لطباع الطفل. متجاهلين القيمة الحقيقية التي من أجلها تأسست المدارس وهو إتاحة الفرصة للطالب أن يتفاعل مع الموجودات من حوله ليستخلص المعلومات والمهارات الفكرية من هذا التفاعل. لعلنا لم نكن لنواجه تلك المشاكل والهزليات التي نواجهها في التعليم اليوم لو كنا انتبهنا للمعنى الحقيقي للمدرسة دون اختزال أو إخلال للمعنى عن حقيقته. بيْدَ أن هذه المشكلة لا تواجهها مصر وحدها -مهما كانت المشكلة كبيرة- فثقافة الاختزال أضحت ثقافة عالمية وعولمية تسعى من خلالها القوى العالمية لمنع استمرار أو ظهور أي فكر أو ثقافة أو هوية تهدد مصالحها التجارية والمالية في عالم تسيطر فيه القلة الثرية على مقدرات وممتلكات وأغلب مصالح الشعوب والمجتمعات وتتحكم في كل مظاهر عالم المال والأعمال والمصالح عالميا.

معطف وكوفية الهوية

قرأت قصة وأنا صغير عن تحدٍ قام بين الشتاء برعده وبرقه ومطره ورياحه مع الشمس بدفئها وهدوئها وحراراتها. فلقد تحدى الشتاء الشمس في أن يغصب أحد الأشخاص على خلع معطفه وكوفيته، فقبلت الشمس التحدي. فقام الشتاء بالعصف وزخت الأمطار واشتدت الرياح والبرودة في الجو. فما زاده كل ذلك إلا تمسكا وتعلقا بمعطفه وكوفيته في وجه هذا العنفوان الشديد والبرد القارس. وفشل الشتاء في التحدي. وعندما جاء دور الشمس لم تقم إلا بالبزوغ والإشراق وزيادة الحرارة والسطوع حتى خلع الرجل معطفه وكوفيته بكل سلاسة حينما تمكن منه الحر وسال على وجهه العرق.

ماذا نتعلم من هذه القصة؟ أنّ تمسك الشعوب بمعتقداتها وأفكارها يزداد ويشتد مع المواجهة العلنية المفتوحة التي تحاول أن تدفع المجتمع نحو ترك هويته وتبني هوية جديدة (سياسة الدفع نحو الآخر). ولكن نجد طواعية أكثر في التغير والتجديد لو استخدمت سياسة الجذب (الحرب الناعمة) لا بانتقاض الموجود ولكن بتعظيم وإبراز مزايا الجديد واختزال القديم تدريجيا في مظاهر جزئية تخل بمضمون مكونات الهوية. هنا توجد احتمالية أكبر لأن تنهار مقاومة المجتمع للتغيير رويدا رويدا مما يسمح بالتغييرات الجزئية والحثيثة. هذه التغييرات مع الوقت تتوسع لتشمل أغلب إن لم يكن كل ما يقع تحت “عنوان الهوية” لدرجة أن المسميات لم تعد مشكلة بالنسبة للجهة المستفيدة من تغيير الهوية. فما قيمة النقانق إن كانت محشوة بالرمال، مهما أطلقنا عليها مسمى النقانق ستظل أبعد ما يكون عن النقانق لأنها تفتقر للمكونات الأساسية التي تجعلها كذلك. فالمسميات وحدها دون مضمون حقيقي لا تكفي لتشخيص أو تكوين هوية حقيقية للشعوب

اضغط على الاعلان لو أعجبك

تعريف الهوية

هناك تعريفات كثيرة للهوية وتختلف باختلاف اللحاظ للإنسان (الأنا الفاعلة أو الأنا المنفعلة والأنا الفردية أو الأنا الاجتماعية) وباختلاف المدرسة الفكرية. لعل الأعم من هذه التعريفات هي التي تنظر للإنسان كفرد ضمن مجموعة ثم لمجموعة المجتمعات التي تمثل البشرية. فتنظر للهوية على أنها “السمات والميزات والعلاقات الاجتماعية والانتماءات الاجتماعية التي تعرف الإنسان”[1]. مثلا كوني أسمر اللون أو أشقر الشعر أو عربي اللغة أو مصري المنشأ أو مسلم أو نوبي فكل تلك مميزات أو محددات لهويتي، تجعلني أتمايز عن البعض في ما اختلف عنهم فيه من السمات وأتشابه معهم في المشتركات. ولعل هذا هو التعريف الأكثر شمولية لكنه لا يضع لنا الطريقة المثلى في تعريف الهوية. ففي النهاية لا يمكن أن نحصر كل المميزات والسمات التي فينا لنعرف هويتنا ناهيك عن كونها عملية مرهقة إلا أنها غير ضرورية. فالجانب المشترك بين البشر في سماتهم ومميزاتهم سيجعل الكثير من تلك الجوانب عقيما في تعريف الهوية. والبعض الآخر يعتمد على النظرة الفلسفية لبعض الاعتبارات التي تختلف من مدرسة لأخرى (كموضوع الجنس مثلاـ فهناك فلسفات ترى بالتفوق العرقي لجنس على الآخر والبعض يرى أن التفوّق الفكري والعقلي يجبّ التفوق العرقي).

نظرة تحليلية

سنحاول أن نلتزم بالمعنى العام للتعريف وهي المفرقات أو المقسمات للمجتمعات الإنسانية المختلفة. ونتساءل هنا، هل يمكننا اختزال المقسمات في مجموعة من العوامل دون أخرى؟ وما هي الأسس السليمة التي ينبغي أخذها كمعيار لهذا التقسيم؟ بيد أن الهوية تعتمد في إدراكها على الأنا المدركة للإنسان[2]. فإذا سلمنا بذلك كان علينا أن نعرف الهوية وفق تعريف آخر وهو تعريف الإدراك للإنسان. وبالتحديد كيفية إدراك الإنسان لنفسه وبالتالي لمجتمعه ومن ثم لهويته بمستوياتها المختلفة. هذه الطريقة لفهم الهوية توضح لنا أن الهوية الكاملة للإنسان لا تكفي كلمة واحدة أن تصفها، فهوية الإنسان تراكمية وتكاملية. فللإنسان كفرد الكثير من المميزات والسمات التي يختلف بها بكونه فرد عن غيره من الأفراد في المجتمع. بعضها جيد وبعضها سيء. وهي ما تملي عليه تصرفاته وسلوكياته كفاعل أو كمنفعل. والإنسان عندما يعرّف نفسه مستخدما فقط بعض تلك السمات أو المميزات دون غيرها فهو لا يفعل ذلك من باب اقتصار أو اختزال هويته في هذه السمات التي ذكرها فقط. فقد يعرض عليه في موقف آخر أن يستخدم سمات أخرى في وصف نفسه لا لأن هويته تتغير من موقف لموقف ولكن لأن هويته أوسع من أن يشملها موقف واحد أو موقفان. فهويته هي التي تشمل وتحتوي مواقف حياته لا العكس. بل إن القوة الكاملة لهوية الإنسان تكمن في مقدرته المستمرة على تعلم الجديد وتطوير نفسه لدرجة تجعل هويته تتسع مع الوقت لتشمل ما لم تكن تشمله في الماضي من مكتسبات فكرية وثقافية أو مهارات اجتماعية وسلوكية جديدة اكتسبها بخبرته في الحياة.

ترتيب الأولويات

إن اختزال الإنسان لهويته في بعض المواقف ناجم في النهاية عن الضرورة التي يحتمها الموقف نفسه. “إن الإدراك الإنساني نفعي بطبيعته يتغير على حسب الظرف والموقف. فالناس تفكر لتصل للتصرف المناسب وإن عملية التفكير هذه تتأثر تأثرا بالغا بالاختيارات المتاحة وبما يحاول الإنسان فعله…”[3]. إن نظرتنا هنا للمنفعة هي النظرة الأعم. أي أننا لن نلتزم بالنظرة النفعية المادية التي تقتصر المنفعة على المادة والوجود المادي فقط. فثقافتنا ورؤيتنا الكونية تسمح بل تقتضي اعتبار المنفعة المجردة اللامادية المرتبطة برحلة الإنسان بعد الموت وما يجنيه هناك كنتيجة لأعماله واختياراته في هذه الحياة. فإذا أدخلنا عامل الموقف أو المصلحة في تفسير توصيف الإنسان لنفسه سنفهم أن الاختزال الذي يلجأ له الإنسان مبرر بالموقف الذي يتكلم فيه. كمثال فإننا نتخيل طبيبا لديه هواية جمع الطوابع، فيعتبر ما يميزه عن مريض يعالجه علمه بالطب (كونه طبيبا) وهوايته (جمع الطوابع). يمكن أن نلاحظ الفارق في التوصيف الذي سيصف به نفسه حينما يعرف نفسه للمريض الذي يعالجه وبين التعريف الذي سيعرف به نفسه في نادي جمع الطوابع مع أصدقاءه الذين لديهم نفس الهواية. بالتأكيد ستتغير الأولويات لديه. نفس الأمر لدينا كمجتمع وكأفراد. فاهتمامنا ببعض السمات دون الأخرى لا يكون من باب الإقصاء والإهمال أو الإلغاء بقدر ما يكون من باب تقديم الأولى والأنسب وفق الموقف والأهداف الأساسية التي نسعى لأجلها.

خلاصة هامة: استراتيجية التمويه و اختزال

إنه ومع كثرة الأوصاف والأسماء التي ننعت أنفسنا بها ومهما كثرت التقسيمات وتعقدت وكثرت سيظل لنا وصف واحد هو المظلة العامة التي تجمعنا جميعا تحتها. مظلة الإنسانية. هذه الإنسانية التي تحملت الكثير من الجرائم والمكائد والمفاسد التي ارتكبت باسمها وتشدقا بالدفاع عن رايتها – راية الإنسانية، هذه هي القضية الأساس. وإن ما يميز الإنسانية عن غيرها من الموجودات هي التفكير الذي يؤدي للسلوك الذي يحقق العدل والسعادة. لهذا فالإنسان كانت رسالته دائما التفكير في الطرق التي يحقق بها لنفسه ولمن حوله الرخاء والتطور الاجتماعي الذي يحقق السعادة والأمن للبشرية، كل البشرية، بلا تمييز أو ظلم لنزعات شخصية أو أحقاد أو ذل. فلما كانت تلك القضية (السعادة والعدالة) هي القضية المحورية للإنسانية كان يجب أن ينصب اهتمامنا في تعريف هويتنا على ما يمليه علينا هذا الهدف وهذا الواقع الذي نعيشه. واقع يغلب فيه القوي على الضعيف ببطشه ويسلب فيه الغني حق الفقير بمكره ودهاءه. زمن ضاعت فيه حقوق المستضعفين من الشعوب والأمم المقهورة التي سلبت أوطانها وسلمت كهدية وقربان للكيانات الاستعمارية اللاإنسانية والطغيانية التي تفتك بالإنسانية وتدمرها بجرائمها الشنيعة التي ترتكبها في كل أنحاء الأرض. لقد اكتست الأرض بدماء المستضعفين ودموعهم حزنًا وحدادًا على الإنسانية التي تدمر نفسها بنفسها. فإنّ تمسكنا بالقيم الإنسانية الحقيقية كالعدل وحب الخير والتمسك بالحق والعلم النافع للبشرية هو تلبيتنا لهذا النداء. لنتسلح بالعلم والحقيقة في مواجهة الظلم والبطش الذي نراه حولنا في أغلب بقاع الأرض. فليس اهتمامنا بتلك المعايير أو هذه الصفات هو لمحو أي صفات أخرى نتميز بها، ولكن للضرورة التي يفرضها الموقف والزمان والمكان.

[1] مارك ليري و جون برايس تانجني، كتيب النفس والهوية، ص. 69، مطبعة جيلفورد،2012

[2] نفس المصدر ص. 71

لقراءة المزيد من المقالات يرجى زيارة هذا الرابط

ندعوكم لزيارة قناة الأكاديمية على اليوتيوب

  [3] نفس المصدر ص 84

حسن مصطفى

مدرس مساعد في كلية الهندسة/جامعة الإسكندرية

كاتب حر

باحث في علوم المنطق والتفكير العلمي بمركز”بالعقل نبدأ للدراسات والأبحاث”

صدر له كتاب: تعرف على المنطق الرياضي

حاصل على دورة في مبادئ الاقتصاد الجزئي، جامعة إلينوي.