مقالات

إذ تضيق الأرض بما رحبت

للدكتور قاسم عبده قاسم رحمه الله صاحب الكتاب العمدة “ماهية الحروب الصليبية” دراسة بالغة الأهمية، نشرها بمجلة العربي الكويتية في عدد مارس 2000م بعنوان: “القراءة الدينية للتاريخ”، يوضح لنا فيها أن فكرة التاريخ تكونت على نحو مستقر في الوعي البشري، بعد تقدم العقل البشري نحو المعرفة والفهم، وأصبح مستعدًا لاستقبال رسالات السماء التي جاءت لتقدم للإنسان الإجابة عن: ما؟ ومن؟ ومم؟ وكيف؟ وأين؟ ومتى؟

وأوضح لنا أيضًا أن الأديان كلها حملت مادة تاريخية في الكتب السماوية، وبلورت للإنسان الوعي بفكرة التاريخ، ويرى أن القراءة الإسلامية للتاريخ تختلف جذريًا عن القراءة اليهودية والقراءة المسيحية لتاريخ البشرية.

ذلك أن فكرة التاريخ كما يجسدها القرآن الكريم تجسيد للتصور الإنساني عن رسالة الإنسان في الحياة ودوره فيها، فالإنسان خليفة الله في الأرض، وعليه أمانة إعمار الأرض وبناء الحضارة، ونشر الحق والعدل في ربوعها.

يلفت نظرنا د/ قاسم أن “الفكرة القرآنية” تقول أن التاريخ لا يجري اعتباطًا، وحركته ليست حركة عشوائية، إنما هي محكومة بسنن وقوانين منذ الأزل وإلى يوم القيامة.

هذه القوانين والسنن لا تمنع الإنسان من أداء دوره التاريخي، بل إنها تجعله مسؤولًا عنه (التاريخ) أمام الله، الذي ميزه بالعقل والحرية.

اضغط على الاعلان لو أعجبك

هكذا قرأ لنا، وهكذا علمنا الأستاذ الدكتور قاسم عبده قاسم صاحب الـ50 كتابًا، وترجم لنا عشرين كتابًا على رأسها كتاب “تاريخ الحملة إلى بيت المقدس 1095-1127م”، تأليف فوشيه دى شارتري (ت/ 1127م).

المقدمة التي كتبها د/ قاسم لهذه الترجمة مهمة جدًا لنا هذه الأيام؛ أيام الدم والنار، أيام الخزي والعار التي يشاهدها عالم العروبة والإسلام في غزة على الهواء مباشرة.

لماذا؟

لأنه سيقول لنا فيها إن: “الشخصية الإسلامية في هذا الكتاب تبدو شخصية مثقلة بالشرور والخطايا والآثام كلها التي يمكن أن يحملها بشر”.

المخزون التاريخي الذي يتعامل به الغرب معنا تجسيد لهذه الجملة، وهو ما أكده لنا د/ إدوارد سعيد رحمه الله في كتاب “الاستشراق”، وكيف أراد أن يرانا الغرب من أيام اللورد كرومر إلى أيام كيسنجر، بنص تعبيره.

كان لا بد من إضفاء هذه الأوصاف على الشرق ومن فيه، وتعميمها في عقل “المكتبة الصلبة” ووعيها التي يحتاجها أي سياسي أو باحث غربي في التعامل معنا.

اللغة المراوغة ستكون حاضرة بقوة هنا، الفيلسوف الألماني شوبنهاور له كتاب بعنوان “فن أن تكون دائمًا على صواب” يقول فيه: “كلنا نميل إلى دحض حجة الخصوم، حتى لو كنا مخطئين وهم على حق، وسبب ذلك الدونية الطبيعية في البشر”.

هذا صحيح بدرجة كبيرة.

التصريحات كلها التي سمعناها من ويتكوف ومايكل والتز وماركو روبيو كلها تدور في هذا الوصف دورانًا كاملًا، ستسبقهم بالطبع سلطة أوسلو (سلطة الكافيار والكسكسى)، التي ستُحمّل الفصائل في غزة مسؤولية النار والدمار الذي تصبه إسرائيل على البيوت والمستشفيات بأمر مباشر من سيد اللعبة الخفي، الذي لم يعد خفيًا. كما قالت إحدى الناشطات في تغريده لها: “لقد سقطت الجدران الخفية واكتشفنا أننا محبوسون في أقفاص”، تعليقًا على ما يراه العالم في غزة.

لكي يُقطَع كل لسان قبيح في بلعومه، قبل أن يقول إن طريقة تسليم الأسرى في غزة استفزت أمريكا وإسرائيل، ودفعتهم لفعل ما يفعلونه الآن، فقد ضحك إبليس عليهم، وعلى إسرائيل، وجعل إسرائيل تفعل الآن في الضفة مثل ما تفعل في غزة؛ هدم وطرد وقتل، اختلاف في الدرجة فقط لا في النوع.

الصحفي الإسرائيلي الشهير جدعون ليفي (72سنة) قال في هآرتس، وترجمه لنا الأستاذ ياسر الزعاترة مشكورًا: “ما لم يتحقق بأقسى قوة في تاريخ إسرائيل، لن يتحقق بقوة أكثر همجية، حماس هنا لتبقى، لقد تأثّرت عسكريًا على نحو كبير، لكنها ستتعافى.

من الناحية السياسية والفكرية أصبحت أقوى في الحرب، بعد أن أحيت القضية الفلسطينية التي قالت إسرائيل والعالم إنه يجب نسيانها، حماس باقية، وإسرائيل لا يمكنها تغيير ذلك”.

إسرائيل من داخلها تتعرض لزلزال سياسي واجتماعي كبير، والمتابعون للحالة الإسرائيلية لم يتفاجأوا، فهذا كان متوقعًا، كانت فقط مسألة وقت، ولا يمكن فصل تصاعده وتعميقه عن ما حدث للدولة ونظامها الكلي الشامل بعد 7 أكتوبر.

ستتكشف لنا كل يوم حقائق ما كان لها أن تتكشف إلا بهذا الطوفان الكبير، الذى أٌجزم بكل يقين أنه قبل اتخاذ قراره دُرِست نتائجه وتوابعه كلها في أقصى صورة لها.

ما هذا الهدوء المضبوط الذي نراه الآن من حماس بعد عودة الحرب إلا إشارة إلى ذلك، ومن يرى ابتسامة الحاج يحيى وهو ينشد بيت أحمد شوقي عن “الحرية الحمراء” سيفهم منها كل شيء.

يتسع المعنى وتضيق العبارة، والصبح قريب؟

الرئيس السادات رحمه الله اتخذ قرار العبور (قناة السويس) في 6 أكتوبر 1973م لتحقيق هدف محدد على “مقاس” طموحه بصفته قائدًا جاء به التاريخ، وقد حققه، وذهب به إلى أقصى ما يمكنه، ثم ذهب هو الآخر ككل الذاهبين، على رأي أبو نواس:

وما الناس إلا هالك وابن هالك *** وذو نسب في الهالكين عريق.

أصحاب الطوفان اتخذوا قرار العبور (سياج غزة) يوم 7 أكتوبر 2023م لتحقيق هدف محدد أيضًا على مقاس طموحهم، بصفتهم قادة ربطوا أنفسهم على الأرض بالسماء، سواء في وعيهم بأنفسهم أو بأدوارهم في التاريخ.

وجملة القائد العسكري الكبير محمد الضيف تختصر كل شيء، وهو يوجه كلامه إلى القيادات في غرفة الإعداد لهجوم 7 أكتوبر: “ممكن نتقدم ويكون في نوع من المبادرة، بحيث تستطيع أن نغير في مجرى التاريخ كله، ليكون لنا السبق في هذه الفترة الزمنية، ونحقق يومًا من أيام الله”.

أن يربط الإنسان الأرض بالسماء في وعيه بنفسه وحياته وعمره والناس من حوله، سيكون وقتها الأمر مختلفًا تمامًا عمن عاش في الأرض وتثاقلت به أثقاله إلى الأرض.

دعونا نتذكر قول الله عن الطير الذي سيكون حاضرًا دائمًا في قلب المشاهد الهامة كلها أمام الإنسان في القرآن: “أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ”.

لماذا خص الرحمن الطير بالذكر دونًا عن المخلوقات كلها التي جمعها مشهد التسبيح الجليل؟ هل لأنه يعيش معنا على الأرض لكنه دائمًا فوق الأرض؟

سنفهم ونستلهم كثيرًا وكثيرًا من موقف الثلاثة الذين نزل فيهم قرآنًا، يصفهم بأنهم ضاقت عليهم الأرض بما رحبت، وضاقت عليهم أنفسهم.

أيًا ما كان السبب فالمعاني يدل بعضها على بعض، لكنهم لم يجدوا لهم ملجأ إلا الله، وهكذا هم اليوم في غزة. لكن وعد الله حق، والصابرون أجرهم بغير حساب.

تذكروا دائمًا جملة “ونحقق يومًا من أيام الله”.

مقالات ذات صلة:

التخريب

صاحب “العصا” الذي دخل عليهم وعلينا “الباب”

خلاصة ما جرى

* تنويه: الأفكار المذكورة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع.

_________________________________

لمتابعة قناة اليوتيوب لأكاديمية بالعقل نبدأ، اضغط هنا

لقراءة المزيد من المقالات، اضغط هنا

د. هشام الحمامى

رئيس المركز الثقافي اتحاد الأطباء العرب – عضو الأمانة العامة والمجلس الأعلى لاتحاد الأطباء العرب – مدير الشئون الطبية بقطاع البترول