رقد مندهشا.. ثم تمدد ومات
كيف من الممكن أن يتحول الإنسان إلى محض أداة استغلال وما إن تنتهي صلاحيتها يُلقى بها دون قيمة؟ وهل من الممكن أن ينسجم الإنسان مع حالة كونه مفعول به، لا قيمة له خارج اعتراف من يستغله ويمتلكه؟ وكيف وصل الحال بالمجتمع البشري إلى هذا الحد من التملك والسيطرة والاستغلال لمن وُضِع تحت خانة الخدمة والاستعباد؟
في قصته القصيرة “أليوشا الإناء”، يفتح المبدع ليوتولستوي هذا الجرح الوجودي بعمق عبر شخصية أليوشا.
أليوشا، أصغر إخوته، وهم يدعونه الإناء، لأن أمه أرسلته ذات مرة بإناء لبن إلى زوجة الشماس، فتعثر بشيء ما، وكسر الإناء، ضربته أمه وسخر منه الأطفال، ومنذ ذلك الحين أطلق عليه لقب الإناء. أليوشا له أنف تشبه كلبًا على التل، هكذا اعتاد الأطفال أن يقولوا من ورائه.
كان على أليوشا مساعدة الأب منذ طفولته المبكرة، كان يعتني بالخيول، يحرس الأرض، يقود العربة الكارو. بعد أن شب عوده أرسلوه إلى العمل لدى تاجر بدلًا من أخيه الأكبر الذي ذهب إلى الجندية.
عندما رآه التاجر للمرة الأولى عبر عن دهشته للأب: “ظننت أنك ستأتي لي برجل، فإذا بك تحضر لي هذا، فما الفائدة من ورائه؟”.
رغم ذلك جرى استغلاله في بيت التاجر للمدى الأقصى: “أليوشا، فلتفعل ذلك، ماذا، هل نسيت؟ فلتحرص على ألا تنسى”، كانت هذه الكلمات تسمع ليل نهار، وأليوشا يجري هنا وهناك ويعتني بهذا وذاك ولا ينسى شيئًا ويجد الوقت لكل شيء.
لكن كيف يتحول الإنسان هكذا إلى عجينة لينة في يد القوى التي تستغله، مثل الأب والتاجر وأسرته وحتى أمه التي كانت توبخه وتسخر منه؟
كان يقول نعم بلا أدنى تردد ويشرع في العمل في الحال، يضحك أمام من يسخر منه أو يصمت ثم يواصل مهامه بكل تفانٍ.
الإنسان عندما يأتي إلى الحياة يكون في أقصى درجات ضعفه البدني والفكري، وتتكون صورته لذاته بناء على نظرة من يطعمه ويحقق له الأمن من وجود غامض. لذلك فهو سريع التصديق للصورة التي يشكلها الآخر له مهما كانت هذه الصورة. لم تتوانى سلطات الجنس البشري منذ فجر التاريخ في استغلال حالة الضعف الطفولي عبر تزييف الوعي والتجهيل وإشعار الأضعف بالنقص وعدم الأهلية. فضلًا عن ابتزاز حاجة الضعفاء سيما الأبناء والعمال للرعاية والأمن ومقايضة هذه الحاجة بتنفيذ برنامج الاستغلال والترويض.
كان أليوشا عند أبيه وأمه محض وسيلة للكسب ومساعدة الأسرة دون أي اعتبار لميوله وشخصيته وكرامته وحقوقه. امتلك الأب ومن بعده التاجر ناصية جسده وعمله وعقله ومصيره. لضعفه وجهله وانعدام فرص تعليمه، اجتاف أليوشا هذه الصورة المزيفة التي شكلها بداخله المجتمع واعتبر ذاته هكذا: خادم حقير لا يمتلك أي حقوق.
عندما آلمته قدماه من كثرة السعي والعمل، لم يغضب لألمه الطبيعي، بل خاف من سيده وأبيه.
وقع أليوشا في حب يوستينيا الطباخة بمنزل السادة، وكانت مثله فقيرة ومسحوقة، إلا أنها أحبته لذاته بعيدًا عن دائرة الانتفاع والاستغلال. شعر لأول مرة أنه هو وليس خدماته، بل هو نفسه كان ضروريًا لإنسان آخر.
شعر أليوشا بالذنب لأنه وقع في الحب، وقع في صراع مع ذاته، لأن ذلك من الممكن أن يؤثر على عمله. اعتقد ذلك بكل تلقائية دون إدانة لمن يستغله ويقمعه، بالأساس لا يمتلك وعي أنه مستغل ومروض إلى المدى الأقصى.
طلب الزواج من يوستينيا. إلا أن هذا الحق الطبيعي للإنسان قوبل بمعارضة شديدة من التاجر والأب.
اشتكى التاجر للأب: “حسنا الأمور تسير بخير، إلا من بعض الهراء الذي يدور في رأسه، فهو يريد الزواج من طباختنا وأنا لا أوافق على زواج الخدم، لن نريدهما في منزلنا”.
وبخ الأب أليوشا: “اعتقدت أن عندك بعض العقل، لكن ما هذا الذي يدور في رأسك؟!”.
أعرض أليوشا عن فكرة الزواج بسرعة وحزن بشدة واستمر في خدمته لأسرة التاجر بذات القوة والعزيمة.
تحرص سلطات المجتمع القمعي على التحكم بميول إنسانها ورغباته، حتى تستطيع الابتزاز والمقايضة والتحكم. هكذا نفذ الأب والتاجر استراتيجية الترويض والاستغلال بمنهجية ناتجة عن التغلغل التاريخي للقمع والتملك.
في أثناء تنظيفه للثلج في أعلى المنزل، انزلق أليوشا، ارتطم بالأرض، وفي غمرة ألمه وسكرات احتضاره وعندما سأله الطبيب عن مكان الألم قال: “أشعر أنه في كل جسمي، لكن لا يهم، أخشى فحسب أن يتضايق سيدي!”.
تحدث قليلًا جدًا، قال إنه عطشان، وبدا أنه مندهش من شيء ما، رقد مندهشًا، ثم تمدد ومات!
اقرأ أيضاً:
* تنويه: الأفكار المذكورة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع.
_________________________________
لمتابعة قناة اليوتيوب لأكاديمية بالعقل نبدأ، اضغط هنا
لقراءة المزيد من المقالات، اضغط هنا