مقالات

أصحاب الوعي الكريم وعَبَدة الصِفر

هل كان للكلب الذي صحب “فتية الكهف” صفات أخرى غير صفات الكلاب كلهم (الود والوفاء والجرأة)؟ أتصور أنه لو كان الأمر كذلك فقط لما حرص التنزيل العزيز على أن يذكره تكرارًا وتعدادًا بهذا الوضوح كله. فالكلاب كلها تصحب أصحابها وتتبعها أينما ذهبت، لا بد إذًا أن تكون الإشارة القرآنية هنا لها مغزى يتجاوز كثيرًا ما هو معروف عن الكلاب كلها.

فموقف “الهدهد” مثلًا مع نبي الله سليمان، كان تقريبًا موقف كل “طير”، فهذه الفئة من خلق الله اختصها سبحانه بخصائص كثيرة، وسيكونون هناك دائمًا، في أعظم المشاهد.

ليس فقط مشهد “الاطمئنان الكبير” مع أبو الأنبياء سيدنا إبراهيم عليه الصلاة والسلام، وليس فقط لأنه من أقوى وأدل آيات الإيمان للمؤمنين (سورة النحل الآية 71)، لكننا سنرى أن الله سيختصه وحده بالتسمية والذكر، حين يخبرنا سبحانه أن من في السماوات والأرض كلهم يسبح بحمده سبحانه، كما جاء في سورة النور (الآية 41).

سنتذكر هنا أن كل كلمة وردت في آخر وحي من السماء إلى الأرض ليس لها مترادف يكرر معناها. ليس هناك مترادفات في القرآن المجيد.

مثلًا الوهن والضعف والاستكانة، ثلاث صفات، لثلاث حالات مختلفة. الوهن: انخفاض القوة النفسية، والضعف: انخفاض القوة البدنية. والاستكانة: إعلان الخضوع، كما ورد في سورة (آل عمران الآية 146).

اضغط على الاعلان لو أعجبك

ونفي الصفات الثلاث كان وصفًا لأولئك الذين تلقوا قدرًا عاليًا من التربية الشاملة الراسخة (رِبيون)، وهو عين ما نراه الآن في مقاتلي غزة.

اجتناب الصفات الثلاث سيكون مشمولًا في حب الله للصابرين، كما اختتمت الآية كلماتها، التي ستليها فورًا آية الثوابين (ثواب الدنيا، وحُسن ثواب الآخرة)، وهو إن شاء الله جزاؤهم، نصرًا لهم ولنا في الدنيا، ووعد الله لهم في الآخرة.

عودة إلى الموقف المتفرد لهذا “الكلب” الذي اختصه الله بالذكر مع أصحابه، الذي سنرى فيه ما لم نره من بعض البشر أصحاب العقل والتمييز، إذ يبدو أن ثقة الكلب في أصحابه لم تكن ثقة عادية، كانت ثقة مطمئنة تمامًا، ليس فيها شك ولا ريبة. كما يبدو لنا أنه استلهم هذه الثقة من الإحساس والشعور، لا من الطبع والغريزة.

يقولون أن الوعي صفة أعلى وأشمل من العقل، الوعي يشمل ما هو ظاهر (الطباع)، وما هو باطن (الشعور)، لكن العقل يهتم فقط بما هو ظاهر، منطق ودليل وتحليل واستنتاج وبرهان، إلخ.

كان الكلب إذًا يتبع أصحابه عن وعى كامل بصحة خطواتهم، التي يخطونها بعيدًا عن المدينة وأهل المدينة، وصباحات ومساءات المدينة التي ألفها كلبهم.

الكلاب عادة تعيش في صحبة مع غيرها من الكلاب، كما أنهم “مناطقيون” ينتمون انتماء لصيقًا للمناطق التي يألفونها ولا يغادرونها بسهولة.

رابعهم أو سادسهم أو ثامنهم، سيفعل ما لا يطيق ولا يحتمل، حبًا وثقة واطمئنانًا، وأيضًا وعيًا، وسيكون دائمًا مع من يحب ويثق ويطمئن.

أقول ذلك كله بين يدي “أيام الله” في غزة التي نراها في “عظماء الألفية الثالثة” أهل الأنوار والعزائم والكرامات، أسيادنا في غزة، المجاهدون ومن يتبعهم و يحميهم من أصحاب الوعي الكريم والوعي العظيم، أهلنا في الجانب الشرقي من ديارنا.

أولئك الذين ما إن ترى دماءهم ودموعهم حتى تتذكر يعقوب عليه السلام وهو يقول لبنيه: “أعلم من الله ما لا تعلمون”. نبي الله كان يعلم كل شيء، من وقت ما قص عليه يوسف المنام الذي رآه. ويا لهول الأيام والليالي التي ستنتظره وسيعيشها حزينًا كظيمًا، من؟ نبي يعلم من الله ما لا يعلمه غيره من الناس العاديين.

يُهيّأ إليّ، ويُهيّأ إلى كثير ممن يتابعون على الهواء تلك المقتلة اليومية، أن أهل غزة ليسوا من الناس العاديين. المؤكد أن الله علم ما في قلوبهم فأنزل السكينة عليهم، وهم ينتظرون بعدها فتحًا قريبًا، هكذا البشارة في النص القرآني، ملاذنا الذي نلوذ إليه، وما كنا لنكون إلا به.

كان الأستاذ العقاد رحمه الله يعمل محررًا في جريدة الدستور، التي أصدرها العلامة فريد عصره في الدين والسياسة كما كانوا يطلقون عليه، الأستاذ محمد فريد وجدي رحمه الله سنة 1907م.

ذات يوم وجده مهمومًا، فسأله الأستاذ العقاد عما به، فسكت ولم يقل له شيئًا، ثم نظر إليه قائلًا: “لا أدري كيف يعيش الملحدون وغير المؤمنين في هذه الدنيا، بغير الإيمان وبغير القرآن!”، مشيرًا إلى حالهم في الهموم والأحزان، إذ كيف يحتملون ويفهمون ما يحدث ويجري في دنياهم وحياتهم؟! تلك الحياة التي لا يعرفون لها معنى ولا غاية.

الشافعي رحمه الله كان يقول: “والدهر يومان، ذا أمن وذا خطر ** والعيش عيشان، ذا صفو وذا كدر”. هذه حقيقة من حقائق الحياة، لكن الأحق منها حقًا وإحقاقًا أن يكون ذلك كله ضمن مفهوم كوني كبير، تجاوزت فيه الروح أهازيج الأسى العابر والفرح العابر، وكل هذا العابر بن العابر الذي سيمر وينتهي.

هذا ما عندنا، فماذا أعددتم له عندكم؟ يا عَبدَة الصفر والعدم.

عربات جدعون؟ بجد؟! وبعد سنة ونصف من تقلبك في شتى أنواع الهزائم والمساخر بالصوت والصورة؟!

ما جديدك يا جدعون؟ ليكن ذلك، ثم ماذا بعد؟

انتظر مئات “السنوارات” الذين سيُولدون ويحيون ويشِبّون على حكايات النار والدم التي سيرضعونها مع حليب أمهاتهم.

“أتمنى لو أستيقظ يومًا وأرى غزة وقد ابتلعها البحر”، إنه اسحق رابين، قالها على لسانهم كلهم أجمعين، من إسحاق شامير وشمعون بيريز إلى شارون وشاؤول موفاز وإيهود باراك.

شاؤول موفاز وزير الدفاع الأسبق، الذي أشرف على الانسحاب الأحادي من غزة سنة 2005م قال: “إن العمليات المسلحة التي عرفها الجيش الإسرائيلي في قطاع غزة لا تشبه أي حرب خاضتها إسرائيل قبل ذلك”. متى هذا الكلام؟ من عشرين سنة، مقاتلوا القسام هذه الأيام، كانوا لا يزالون رضع!

“لن نهزم حماس لأن الجيش حاليًا غير قادر على ذلك، سنخرج من الحرب بشعور الإذلال والهزيمة، (كالكلب الذي يضع ذيله بين رجليه) وكما خرج جيش أمريكا من فيتنام وأفغانستان.

ستستمر أنظمة التعليم والصحة في الانهيار، وسيفر أفضل المواطنين من البلاد، الانفجار الاجتماعي سيتصاعد، وستتحطّم الروح الوطنية، ولن يكون هناك سوى خطوة واحدة بيننا وبين الحرب الأهلية”. هكذا تحدث الجنرال القدير القديم اسحق بوريك، وقالها عشرات المرات من بداية الغزو البري في 27 أكتوبر 2023م.

سنعلم مع كل ساعة وكل يوم وكل خبر أن الصراع الآن في غزة يدور بخصوص “روح الشرق ووعيه بذاته”، هذا هو مربط الموضوع. هو بالضبط ما تعنيه عبارة: “لا بد من إخضاع حماس”، جملة مفتاح كما يقال، ولن نفهمها أبدًا بعيدًا عن سياقها التاريخي الطويل، وارجعوا لبيجوفيتش والمسيري وإدوارد سعيد، رحمهم الله.

نجح طوفان الأقصى تمامًا في وضع كل شيء عن هذا الصراع في مكانه المطلوب بالضبط، لفظًا ومعنى، حقيقة وشكلًا، إن حقًا فحق، وإن باطلًا فباطل.

مقالات ذات صلة:

النزعة الإلحادية الجديدة ونصل أوكام

عبقرية المقاومة

نفسية الهبوط

* تنويه: الأفكار المذكورة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع.

_________________________________

لمتابعة قناة اليوتيوب لأكاديمية بالعقل نبدأ، اضغط هنا

لقراءة المزيد من المقالات، اضغط هنا

د. هشام الحمامى

رئيس المركز الثقافي اتحاد الأطباء العرب – عضو الأمانة العامة والمجلس الأعلى لاتحاد الأطباء العرب – مدير الشئون الطبية بقطاع البترول