أرسطو: المؤسس الأول لعلم الحاسوب .. الجزء الثاني
كانت محاولة تحسين عمل «أرسطو» المنطقي بمنزلة خطوة جريئة فكريًا. لقد احتل منطق «أرسطو»، الذي قدَّمه في كتابه المكون من ستة أجزاء «الأورجانون» (The Organon)، مكانة مركزية في التقليد العلمي المدرسي لأكثر من ألفي سنة. وكان من المعتقد على نطاق واسع أن «أرسطو» كتب تقريبًا ما يمكن قوله كله بخصوص هذا الموضوع، وهو ما دفع الفيلسوف الألماني الكبير «إيمانويل كانط» Immanuel Kant)) إلى التعليق قائلًا: «منذ أرسطو، لم يكن المنطق قادرًا على اتخاذ خطوة واحدة إلى الأمام، ومن ثم يبدو للجميع كأنه قد انتهى واكتمل». ربما كانت ملاحظة أرسطو المركزية أن الحجج تكون صحيحة أو باطلة تأسيسًا على بنيتها المنطقية، بغض الطرف عن الكلمات غير المنطقية التي تتضمنها. ويُعرف مخطط الحجة الأكثر شهرة الذي ناقشه باسم القياس (Syllogism):
كل إنسان فان
سقراط إنسان
إذًا سقراط فان
يُمكنك استبدال أي اسم آخر بالموضوع «سقراط»، وأي محمول آخر بكلمة «فان»، وستظل الحجة صحيحة، إذ تُحَدد صحة الحجة فقط عن طريق البنية أو الصورة المنطقية، والحدود المنطقية مثل «كل» (All)، «يكون» (Is)، «تكون» (Are)، «لذلك» (Therefore)، تؤدي العمل كله.
كذلك وضع «أرسطو» مجموعة من البديهيات الأساسية التي استمد منها بقية نسقه المنطقي، وهي البديهيات التي عُرفت باسم قوانين الفكر الأساسية:
- قانون الهوية، القائل بأن الشيء هو نفسه (أ هو أ)، وبلغة رياضية فإن (أ) = (أ)، ما دامت قيمة (أ) ثابتة.
- قانون التناقض، القائل بأن الشيء لا يمكن أن يكون هو وليس هو في وقتٍ واحد ومن جانب واحد: (أ) لا يمكن أن تكون (أ) وليس (أ) في الوقت ذاته.
- قانون الثالث المرفوع أو الوسط الممتنع القائل بأن الشيء إما أن يكون هو أو ليس هو، ولا ثالث بينهما: (أ) أو لا (أ).
لم يكن المقصود من هذه القوانين وصف كيفية تفكير الناس بالفعل (فهذا مجال علم النفس)، لكن كيف يجب أن يفكر الشخص المثالي والعقلاني تمامًا. وقد أثر منهج «أرسطو» الأكسيوماتيكي على كتابٍ أكثر شهرة، وهو كتاب «العناصر» لإقليدس (Euclid’s Elements)، الذي يُقدر أنه يحتل المرتبة الثانية بعد الكتاب المقدس في عدد طبعاته المنشورة!
على الرغم من أن كتاب «العناصر» كان يتعلق ظاهريًا بالهندسة، فقد أصبح كتابًا مدرسيًا قياسيًا لتدريس الاستدلال الاستنباطي الدقيق (قال «أبراهام لينكولن» (Abraham Lincoln) ذات مرة إنه تعلم الحجج القانونية السليمة من دراسة «إقليدس»). في نسق «إقليدس»، مُثِّلت الأفكار الهندسية أنها مخططات مكانية. واستمرت ممارسة الهندسة بهذه الطريقة حتى أظهر «رينيه ديكارت» (René Descartes)، في ثلاثينيات القرن السابع عشر، أنه يمكن تمثيل الهندسة أنها صيغ جبرية بدلًا من ذلك، وكان كتابه «مقال عن المنهج» (Discourse on Method) أول نص رياضي في الغرب ينشر ما يعرف الآن بالتدوين الجبري القياسي للمتغيرات (Variables). وقد سمح جبر «ديكارت» لعلماء الرياضيات بالانتقال إلى ما هو أبعد من الحدس المكاني لمعالجة الرموز باستخدام قواعد صورية محددة بدقة، وأدى هذا إلى تحويل النمط السائد في الرياضيات من الرسوم البيانية إلى الصيغ، مما أدى، من بين أمور أخرى، إلى تطوير حساب التفاضل والتكامل، الذي اختُرِع بعد «ديكارت» بنحو ثلاثين عامًا على يد كل من «إسحق نيوتن» (Isaac Newton) و«جوتفريد ليبنتز» (Gottfried Leibniz)، على نحوٍ مستقل.
بالعودة إلى «جورج بول»، نجد أنه كان يهدف إلى أن يفعل للمنطق الأرسطي ما فعله «ديكارت» للهندسة الإقليدية، أعني تحريره من حدود الحدس البشري بمنحه تدوينًا جبريًا دقيقًا. ومثال بسيط على ذلك، عندما كتب «أرسطو»: «كل إنسان (يكون) فان»، وضع «بول» متغيرات مثل «س»، «ص» بدلًا من كلمتي «إنسان» و«فان»، ووضع إجراءات حسابية (ثوابت) بدلًا من كلمتي «كل» و«يكون»: «س = س × ص» (وتُقرأ: كل شيء في المجموعة «س» موجود أيضًا في المجموعة «ص»).
هكذا أدى كتاب «قوانين الفكر» إلى نشأة مجالٍ علمي جديد: المنطق الرياضي، الذي أصبح في السنوات التالية أحد أكثر مجالات البحث نشاطًا لعلماء الرياضيات والفلاسفة. ووصف «برتراند راسل» Bertrand Russell)) كتاب «قوانين الفكر» بأنه «العمل الذي اكتُشِفت به الرياضيات البحتة»!
تمثلت رؤية «شانون» في إمكانية ربط نسق «بول» مباشرة بالدوائر الكهربائية. في ذلك الوقت، لم يكن للدوائر الكهربائية نظرية منهجية تحكم تصميمها، وأدرك «شانون» أن النظرية الصحيحة ستكون «مشابهة تمامًا لحسابات القضايا المستخدمة في الدراسة الرمزية للمنطق»، وأوضح التناظر بين الدوائر الكهربائية والعمليات المنطقية في مخطط بسيط. وقد سمح هذا التناظر لعلماء الحاسوب باستعادة «بول» وعلماء المنطق اللاحقين عقودًا من العمل في المنطق والرياضيات. وفي النصف الثاني من ورقته البحثية، أظهر «شانون» كيف يمكن استخدام نسق جورج بول المنطقي لإنشاء دائرة لجمع رقمين ثنائيين. وبربط هذه الدوائر الجامعة (Adder Circuits) معًا، يمكن إنشاء عمليات حسابية معقدة على نحوٍ تعسفي. وقد أصبحت هذه الدوائر اللبنات الأساسية لما يُعرف الآن بوحدات المنطق الحسابي (Arithmetical Logic Units)، وهي مكون رئيسي في أجهزة الحاسوب الحديثة. وكان «شانون» أول من ميز بين الطبقتين المنطقية والمادية لأجهزة الحاسوب، وهو تمييز أساسي جدًا الآن لعلم الحاسوب، لدرجة أن مدى بصيرة «شانون» في ذلك الوقت قد تبدو مفاجئة للقراء المعاصرين، ومع ذلك، ما كان لهذا المجال أن يمضي قدمًا من دونه، أي من دون العودة إلى مقولات الفكر القديمة، ما يُذكرنا بالقول المأثور: «إن فلسفة قرنٍ ما هي إلا الحس المشترك للقرن الذي يليه»!
منذ ذلك الحين، أُحرِز قدر هائل من التقدم فيما يتعلق بالبنية المادية لأجهزة الحاسوب، بما في ذلك اختراع الفيزيائي الأمريكي «ويليام شوكلي» (William Shockley) وزملائه للترانزستور (Transistor) سنة 1947 (الترانزستورات نُسخ محسنة تحسينًا كبيرًا من مرحلات شانون الكهربائية — أفضل طريقة معروفة لتشفير العمليات المنطقية فعليًا). وعلى مدار السبعين عامًا التالية، عبّأت صناعة أشباه الموصلات مزيدًا ومزيدًا من الترانزستورات في مساحات أصغر فأصغر، فعلى سبيل المثال: يحتوي جهاز آيفون 2016 على نحو 3.3 مليار ترانزستور، كل واحد منها بمنزلة «مفتاح ترحيل» (Relay Switch) مثل تلك المفاتيح الموضحة في مخططات «شانون». وفي حين أظهر «شانون» كيفية رسم خريطة للمنطق تنطبق على العالم المادي، أظهر «تورينج» كيفية تصميم أجهزة حاسوب بلغة المنطق الرياضي. عندما كتب «تورينج» ورقته البحثية سنة 1936، كان يحاول حل «مشكلة القرار» (The Decision Problem)، التي طرحها لأول مرة عالم الرياضيات الألماني «ديفيد هيلبرت» (David Hilbert)، حين تساءل عما إذا كانت هناك خوارزمية يمكنها تحديد ما إذا كانت الجملة الرياضية الاعتباطية صادقة أم كاذبة. وعلى النقيض من ورقة «شانون»، فإن ورقة «تورينج» تقنية للغاية، ولا تكمن أهميتها التاريخية الأساسية في حلها لمشكلة القرار، بل في قالب التصميم الحاسوبي الذي قُدِّم بها.
كان «تورينج» يعمل وفقًا لتقليد يعود إلى «ليبنتز»، العملاق الفلسفي الذي طوَّر حساب التفاضل والتكامل مستقلًا عن «نيوتن». ومن بين مساهمات «ليبنتز» العديدة في الفكر الحديث، كانت واحدة هي الأكثر إثارة للاهتمام، ألا وهي فكرة وجود لغة جديدة أطلق عليها اسم «السمة العالمية» Universal Characteristic))، التي تصور أنها يمكن أن تمثل المعرفة الرياضية والعلمية الممكنة كلها. وبإيحاءٍ جزئي من الفيلسوف الديني «رامون لول» (Ramon Llull) في القرن الثالث عشر، افترض «ليبنتز» أن اللغة ستكون إيديوغرافية (Ideographic) مثل الهيروغليفية المصرية، باستثناء الحروف التي تتوافق مع التصورات «الذرية» للرياضيات والعلوم. وذهب إلى أن هذه اللغة ستمنح البشرية «أداة» يمكنها تعزيز العقل البشري إلى حد أكبر بكثير من الأدوات البصرية مثل المجهر والتلسكوب، كما تصور أيضًا آلة يمكنها معالجة اللغة، وأطلق عليها اسم «أداة الاستدلال المنطقي لحساب التفاضل والتكامل» Calculus Ratiocinator)). وهكذا، فإذا نشأت خلافات، فلن تكون هناك حاجة إلى مناظرةٍ بين فيلسوفين أكثر من الحاجة إلى النقاش الهادئ بين اثنين من المحاسبين، إذ يكفي للاثنين أن يتلقفا أقلامهما بأيديهما، ويقولا «هلموا نحسبها»!
يتبع…
مقالات ذات صلة:
الفرق بين التفكير الاستقرائي والاستنباطي
* تنويه: الأفكار المذكورة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع.
_________________________________
لمتابعة قناة اليوتيوب لأكاديمية بالعقل نبدأ، اضغط هنا
لقراءة المزيد من المقالات، اضغط هنا