مقالات

ولايزال حديثنا موصولا عن مكانة العقل في الفلسفة العربية – الجزء الثالث

فبعد أن استعرضنا مكانة العقل في الفكر المسيحي، وكيف دافع الدكتور جورج طرابيشي عن العقل بموضوعيته المعروفة، داحضا فريات وشبهات بعض المستشرقين من أن الفلسفة العربية فلسفة ترزح تحت ميثودولوجيا الوهم والخرافات والخزعبلات، وأن العرب سواء مسلمين أو مسيحيين كان تفكيرهم عاطفي مستمد من كتبهم المقدسة وهذا ما أرفضه،

كما ذكرت سالفا أنه ليس ثمة تعارض بين العقل والنقل، ولكنها ذريعة تذرع بها بعض الغرب غير المنصف إحياء لفكرتهم الممقوتة أن الفلسفة والتفكير الفلسفي خلق عبقري يوناني أصيل -لا ننكر ما قدمه الغرب اليوناني للفكر الإنساني عامة والفكر الفلسفي على وجه الخصوص- لكن ليس معنى ذلك أن تتهمني بالتبعية والنقل والتقليد، فالغرب رجال ونحن رجال لا نساير الخطوة بالخطوة والنعل بالنعل، وإنما لنا فكرنا الخاص بنا وشاهدي على ذلك استمرار وبقاء مؤلفات أساطين الفكر الفلسفي العربي إلى الآن.

ظاهرة التأثير والتأثر ظاهرة محمودة في الفكر الإنساني، لكن المرزول أن يتهمنا بعض المستشرقين غير المنصفين بالتبعية وكأننا محكوم علينا بأن نكون الصبيان وهم الأسطوات على حد قول الدكتورحسن حنفي، هم الذين يفكرون لنا ونحن المتلقون وتلك قسمة ضيزى باطلة.

يا سادة! يا من يدعي أن الفلسفة العربية فلسفة يونانية كتبت بأحرف عربية، ليس معنى أن هناك مقاربات فكرية وفلسفية بين آراء فلاسفة العرب وآراء فلاسفة اليونان أننا نقلة ومقلدين، فالفلسفة العربية فلسفة حرة مستقاة من أئمتها وأساطينها، وسنفرد مقالا كاملا عن ظاهرة التأثير والتأثرفي الفكر الإنساني.

اضغط على الاعلان لو أعجبك

مكانة العقل في الفلسفة العربية في بلاد المغرب والأندلس

والآن نطوف بكم حول مكانة العقل في الفلسفة العربية في بلاد المغرب والأندلس، هاجرت الفلسفة من المشرق إلى المغرب هروبا من الاضطهادات المستمرة من رجال الدين والفقهاء، ظنا من أئمتها أنهم سيجدون ملاذا آمنا في بلاد المغرب، لكن الحال في المغرب لا يقل سوءا عن المشرق، فقد تعرضت الفلسفة في بلاد المغرب أيضا إلى حملات اضطهاد مع ذيوع الفقه المالكي وأنه لا يقرب من الأمير إلا أصحاب العلوم الشرعية، بل وبلغت كراهية الفلسفة ذروتها في عهد المنصور بن أبي عامر أحد أمراء الطوائف، فقام بإحراق كتب الأوائل وإلقائها في آبار القصر.

ولكن ثم سؤال كيف انتقلت الفلسفة من المشرق إلى المغرب؟

انتقلت عن طريق الرحلات العلمية المتبادلة، حيث بدأ الناس يرتحلون منذ القرن الرابع الهجري من الأندلس إلى أماكن الشرق الآهلة بحلقات العلم ودروس المشاهير من العلماء والفلاسفة، فدخلت بذلك كتب إخوان الصفا، وكتب أبو سليمان السجستاني المنطقي، وبدأ تأثير الفارابي يظهر، وعرفت كتب ابن سينا وخصوصا كتابه (القانون في الطب)، وكما ذكرت سالفا فعلى الرغم من انتقالها للمغرب إلا أنها لاقت ما لاقته من قهر واضطهاد مثل ما لاقته في المشرق.

انقسم المغرب إلى ثلاث فترات، عهد بني أمية وملوك الطوائف، فترة حكم الموحدين محمد بن يوسف بن تاشفين، وفترة حكم المرابطين وهذه الفترة هي مرحلة النضوج العقلي للفكر الفلسفي العربي في بلاد المغرب، فترة حكم محمد بن تومرت، وعلى الرغم من أن هذا الرجل أشعري المذهب متأثر بالغزالي، إلا أنه تميز بعقلانيته التي بدت واضحة عند مخالفته للغزالي في مسألة تكليف الله للعبد مالايطيق؛ إذ يرى الغزالي أن الله في استطاعته تكليف العبد مالا يطيق من أعمال، إلا أن ابن تومرت رفض عقلا هذه الفكرة، فكيف يكلف الله عباده مالا يطيقونه؟

ابن سيد البطليوسي وابن باجه

وبعد ذلك بدأ الفكر الفلسفي ينضج في بلاد المغرب فنجد ابن سيد البطليوسي الذي حاول التوفيق بين الفلسفة والدين وأنهما لا يتعارضان، وإنه قدم أدلة عقلية إعلاء لقيمة العقل أثبت خلالها وجود النفس الإنسانية، أدلة أقامها على أساس عقلي صرف، وإن كان قد قدم أدلة نقلية على ذلك داحضا فكرة أنه ليس ثمة اتفاق بين الشرع والفلسفة.

اضغط على الاعلان لو أعجبك

ثم ظهر بعده رائد الاتجاه العقلاني ومؤسسه الفيلسوف أبو بكر بن الصائغ بن باجه، الذي اعترف بفضله ابن رشد قائلا: “تتلمذت علي مؤلفات ابن باجه العقلية”، ابن باجه الذي لم يعترف في طريق وصوله إلى الحقيقة إلا بالعقل، وليس هناك إلا حدس واحد هو الحدس العقلي ناقدا ماذهب إليه الغزالي من القول بالذوق والمشاهدة والكشف، بل وله رسالة أطلق عليها (رسالة الاتصال بالعقل الفعال) الذي لا يتأتى لأحد الوصول إليه إلا من عاين وعاش التجربة العقلية عن طريق ما أسماه تدبير المتوحد؛ الإنسان الذي ينغلق على ذاته في خلوة عقلية يصل من خلالها إلى العقل الفعال ويدرك عقلا كنه الحقيقة.

أبو بكر بن طفيل والشارح الأعظم وابن رشد

وإذا ما تركنا ابن باجه سنجد أبو بكر بن طفيل وقصته الشهيرة (حي بن يقظان)، وكيف وصل حي إلى الاتصال بالعقل الفعال، لا عن طريق التصوف وإنما عن طريق العقل، وكيف وصل إلى معرفة أطوار خلق الإنسان عن طريق العقل، فهو القائل: “وعن طريقه _أي العقل_ هدينا إلى المعرفة، وأرقى أنواع المعارف ما يكون مبناها على العقل”.

ثم إذا ما وصلنا إلى الشارح الأعظم فيلسوف وفقيه قرطبة نجد أن العقلانية قد اكتملت أركانها عنده، فجل مؤلفاته وخصوصا (تهافت التهافت) أقام صرحه على أساس عقلي مقارعا الغزالي الحجة بالحجة والرأي بالرأي، ليس هذا فحسب بل في شروحاته لأرسطو ولمؤلفاته يشيع فيها روح العقل، حتى كتابه (مناهج الأدلة في عقائد الملة) يوفق بين الفلسفة والدين عقلا ونقلا، وأنه ليس ثمة صراع بينهما، بل يقول الفلسفة والشرع متحابان طبعا متقاربان بالعقل،

ثم نجد عقلانية ابن رشد واضحة جلية في كتابه (فصل المقال) وحديثه عن قوانين التأويل العقلي وتعريفه للتأويل وتفرقته بين التفسير والتأويل، ليس هذا وحسب بل وفي حديثه عن صنوف الطالبين، وتفرقته عقلا بين الخطابيون والجدليون والبرهانيون، فضلا عن ذلك كتابه في النفس وحديثه عن خلود النفس وأدلته العقلية، وإلى غير ذلك من الموضوعات التي أعلى من خلالها شأن العقل ورفعه مكانا عليا.

هذا بالنسبة لمكانة العقل في الفلسفة العربية ، خلال ثلاث مقالات متتالية طوفنا بحضراتكم حول موقف فلاسفة العرب _سواء المشارقة أو المسيحيين أو المغاربة_ من العقل وكيف اهتموا به ووضعوه في منزلة تليق به، ولم لا وهم أهل الفكر الخصب الذي لا ينضب معينه.

اضغط على الاعلان لو أعجبك

* تنويه: الأفكار المذكورة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع.

اقرأ أيضا:

الجزء الأول من المقال

الجزء الثاني من المقال

تهميش الفلسفة وسطوة اللاعقلانية في العالم العربي

أ. د. عادل خلف عبد العزيز

أستاذ الفلسفة الإسلامية ورئيس قسم الفلسفة بآداب حلوان

مقالات ذات صلة