مقالات

لقد ماتت رقية وهي ما زالت حديثة الولادة! فمن المسؤول؟

ولادة رقية

يرن جرس الهاتف، حالة ولادة جديدة، يهرع الطبيب والممرض لعيادة التوليد القريبة، كانت الأشعة التلفزيونية قد أظهرت أن الجنين ربما يعاني من انسداد في الاثنى عشر، أي الجزء الأول من الأمعاء الدقيقة، تصل الوليدة (رقية) عالمنا بصحة عامة ممتازة، يتم نقلها لمركز الحضانات للتأكد من الانسداد، يطلب الطبيب تصويرها بالأشعة السينية. الصورة الأولى غير واضحة، يعيد فني الأشعة التصوير؛ ليتأكد التشخيص.

الأحداث تدور في مركز للحضانات الخاصة بالأطفال المبتسرين وحديثي الولادة، الساعة الثانية ظهرًا، بإحدى المدن الصغيرة في الريف المصري،

تُحجز (رقية) في محضن بالمركز، تحصل على تغذيتها بمحاليل وريدية، لا يجب أن تتناول أي تغذية من الفم؛ فالجهاز الهضمي مسدود، ولن يمتص اللبن أو يستفيد منه، كما أنها ستتقيء ما تتناوله باستمرار، وهذا في حد ذاته غير لطيف، كما ينذر بخطورة دخول اللبن في جهازها التنفسي مسببا التهابا رئويا حادا.

يظهر الأب بعد ما اطمئن نسبيا على الأم، ولكن عندما علم بالأشعة التي تمت والتي يحتاج ليدفع ثمنها بدأ يتضايق. يطلب بيانات عدة أطباء مختصين بجراحات الأطفال، يتوجه إليهم في المدينة الكبيرة القريبة ليسأل عن الجراحة التي تحتاجها ابنته.

اضغط على الاعلان لو أعجبك

في اليوم التالي يعود الأب غاضبا، لا يوضح سبب الغضب، يبدأ في التشكيك فيما يقوم به الفريق الطبي، يطالب بأن يتم إرضاع الوليدة بالفم، يرفض الفريق الطبي، يطلب الأب أخذ ابنته إلى المنزل معه، وهناك سيقوم بإرضاعها، وهي ونصيبها، إن عاشت عاشت، وإن ماتت ماتت!

بعد مناقشات مع الفريق الطبي يفصح بصوت منكسر مهزوم ومشبع بالحسرة: «لا مال يكفي للحضّانة، فضلا عن العملية الجراحية بالطبع. ولا وظيفة أصلا كي يأتي المال!». يوقع الأب إقرارا بأنه يعلم حالة (رقية) جيدا، وخطورة خروجها من الحضانة، وأنه سيأخذها على مسئوليته الشخصية تمامًا. يغيب الوالد عن النظر، ومعه (رقية)، لا أحد على وجه الدقة يعرف ما الذي حدث بعد ذلك، لكن يمكنك أن تتخيل!

من قتل (رقية)؟

ليست الحالة هي الأولى أو الوحيدة بالطبع، حالات أخرى ترفض إدخال فلذات أكبادها للحضانات لنفس السبب، ثم: (هو ونصيبه!). هذا عن نقص الرعاية الطبية، لكن الأمر أسوأ، فحتى الغذاء لا يتوفر، إذ يتسبب نقص التغذية في 45% من وفيات الأطفال في العالم، أي حوالي 1,3 مليون وفاة كل عام، طبقًا لتقارير منظمة «اليونيسيف». كل هذا في فئة عمرية واحدة وتخصص طبي واحد. والمظالم والكوارث موجودة في كل الأعمار وكل التخصصات، وفي كثير من أنحاء العالم!

بل لا يقتصر الأمر على البلدان الفقيرة، فهناك –مثلًا- حوالي 45 مليون أمريكي -أو 15% من السكان- دون تأمين صحي، إضافة إلى حوالي 25 مليون لا يستطيعون تحمل الفرق بين ما يغطيه تأمينهم الصحي وبين فواتير علاجهم! حيث يعتمد تمويل الخدمات الصحية هناك بشكل رئيسي على التأمين الصحي الخاص الذي يغطي حوالي 67% فقط من الأمريكيين، إذ إن معظم المنشآت الصحية في الولايات المتحدة تُملك وتدار من قبل القطاع الخاص الذي تحكمه الشركات ومصالحها. وقد حاول مشروع «أوباما كير» أن يحسن الأوضاع، لكنه يواجه حملات شرسة حاليا داخل الولايات المتحدة، ومن المتوقع أن تلغيه الإدارة الجديدة.

دعنا نتفق على أننا لا نتحدث هنا عن رفاهيات، بل عن صحة الإنسان، التي تعتبر من أهم ما يملك على الإطلاق، بل هي أهم ما يملك على مستوى جسده، وبدونها لا يستطيع أن يشق طريقه في هذه الحياة، أو يسعى في رحلته لنيل السعادة والرقي والتكامل، أو أن يتطور على مستوى نفسه وعقله وروحه.

اضغط على الاعلان لو أعجبك

ودعنا لا ننسى أن عالم اليوم يمتلك البعض فيه -بل ينفقون- مليارات المليارات الكافية لعلاج كل هذه الأزمات، وهو عالم غارق في النفط، قائم على صروح هائلة من التصنيع والبحث العلمي والنقل، ويمتلك تقنيات هائلة لمواجهة هذه الأزمات وغيرها، لكن يبدو أنه يفضل استخدام هذا كله في صناعة طائرات حربية تقصف هؤلاء بدلا من علاجهم!

فمن قتل (رقية)؟

أين الحقوق ؟!

وعلى صعيد الصحة النفسية فهي متدهورة بشكل مخيف، فمثلا في البلدان الفقيرة لا يوجد اهتمام بها أصلا، وبالتالي لا توجد إحصاءات كافية. وفي المجتمعات الغنية الوضع مزري، ففي أمريكا –كمثال- حوالي 30% من المرضى الذين يراجعون المستشفيات ترجع أمراضهم إلى اضطرابات نفسية، و60% من المرضى الذين يراجعون الأطباء عامة هم مرضى نفسانيون.

أما عن الصحة العقلية فقد انتشرت الاتجاهات غير العقلانية في العالم، وأصبح الاختلال -أو قل المرض- هو المعتاد! مثل إنكار البديهيات، كاستحالة اجتماع النقيضين وقانون السببية، وانتشار اتجاهات الشك المطلق والسفسطة، بل وحتى الاتجاهات الحسية. بل تدرّس هذه الاتجاهات حاليا في بعض الجامعات بوصفها أرقى أنواع الفكر! فابتعد العالم عن المنهج العقلي، وعن المنطقية في التفكير.

فمن قتل (رقية)؟

اضغط على الاعلان لو أعجبك

إن هذه الاتجاهات غير العقلانية هي السبب الأول في مقتلها! غياب العقل والمنطق قتل (رقية)!

فقد نتج عن التوجهات غير العقلانية آثارًا مدمرة على الإنسان، وعلى رؤيته واعتقاده ومبادئه وسلوكه، أدت لانتكاسة كبيرة في مجال تحديد حقوق البشر، والعمل على إعطاء كل ذي حق حقه.

فمن هذه الاتجاهات من أنكر أن للبشر حقوقًا! أو قال إن الحقوق ليست شيئا حقيقيًا! بل هي مجرد اتفاق بين البعض يمكن نقضه وقتما نحب! أو تلفيق ذهني يتغير حسب الملفق وهواه ومزاجه!

وقال بعضهم إن للبشر حقوقًا، لكن هذه الحقوق مادية فقط، لأن الإنسان مجرد جسم مادي، فهو حيوان مثل أي حيوان، بلا أي فرق! لكن الغريب أن هذه الاتجاهات نفسها سرعان ما تنكرت لحقوق البعض المادية، مثل حقهم في الغذاء والرعاية الصحية ومستوى المعيشة الكريم والحفاظ على الجسد، فنجدهم في عالم اليوم لا يسعون ولا يدعون إلا لحقوق القلة المالكة للمال والنفوذ والمادة، مع دهسهم للضعفاء والفقراء مثل (رقية) وأبيها، وكما تظهر الإحصائيات السابقة.

السعادة في العدالة

كما لم يضع هؤلاء إعطاء الحقوق لأصحابها نصب أعينهم عندما صاغوا (أيديولوجياتهم)، بل وجدت أيديولوجيات لا تهدف إلا لنزعات قومية، أو سيادة عرقية وهمية، ولو على حساب حقوق شعوبهم نفسها! وأخرى تطلب رأس المال وبقاءه وتهتف بحياته، وتضحي بالجموع المطحونة في خدمته! وثالثة لا منطقية غير متماشية مع حقيقة الإنسان ونزعاته الكثيرة والمركبة! ورابعة طالبت بالحرية المطلقة حتى وإن أدت لظلم الإنسان لنفسه أو لغيره!

اضغط على الاعلان لو أعجبك

بينما في المنهج العقلي الحقوق حقيقية ثابتة مطلقة، لا يغيرها الاتفاق أو التأليف أو الهوى أو الظروف. وللإنسان حقوق مادية وأخرى معنوية وعقلية وروحية، وحقوقه المادية وغير المادية ثابتة دائما لا تتغير، يتم التعرف عليها بالعقل وحده بشكل كلي عام، وعلى جزئياتها وتفاصيلها بالعقل المستعين بالأدوات الأخرى كالحس والنصوص الدينية الصحيحة. ومن أبسط حقوقه بالطبع الحق في الحياة!

والهدف من وجود المجتمع في المنهج العقلي هي إعطاء كل ذي حق حقه، أي العدل. ولذلك هدف الأيديولوجية يجب أن يكون هو العدل نفسه، وليس التفوق الوهمي أو رأس المال أو الحرية ولو على حساب العدل.

وعملية إدارة الحقوق وحفظها، وضمان تحقيق العدل، يتم جعلها في يد الأكثر علما بهذه الحقوق، وبكيفية حفظها وأدائها، والأكثر عدلا ونزاهة وكفاءة، مع قبول وموافقة ومراقبة الجمهور. وبذلك يتم حفظ الحقوق، والضرب على يد الظالمين، والتخلص من الأخطاء التي يسببها الجهل وقلة العلم، أو سوء الإدارة والتخطيط والتنفيذ، أو قلة الضمير.

لذلك من أجل (رقية)، ومن أجل الضعفاء، ولأجل العدل، ولكل ما سبق؛ «بالعقل نبدأ»!

اقرأ أيضا:

التعميم الأعمى يلاحقنا .. لماذا هو أعمى ؟ وكيف لنا أن نتخلص منه ؟

القوى الكامنة في الإنسان .. لماذا نحن مميزون بالعقل (1)

 توهم المعرفة.. هل كل خريج جامعة يعتبر متعلم ؟

لقراءة المزيد من المقالات يرجى زيارة هذا الرابط.

ندعوكم لزيارة قناة أكاديمية بالعقل نبدأ على اليوتيوب.

أحمد عزت هلال

د. أحمد عزت

طبيب بشري

كاتب حر

له عدة مقالات في الصحف

باحث في مجال الفلسفة ومباني الفكر بمركز بالعقل نبدأ للدراسات والأبحاث

صدر له كتاب: فك التشابك بين العقل والنص الديني “نظرة في منهج ابن رشد”

حاصل على دورة في الفلسفة من جامعة إدنبرة البريطانية

حاصل على دورة في الفلسفة القديمة جامعة بنسفاليا

مقالات ذات صلة