علم نفس وأخلاق - مقالاتمقالات

ما أكثر الناس، وما أندر الإنسان!

«ما كل هذه الضجة؟ أي طبيب جيد سوف يفعل ذلك! المسألة ليست بهذه الضخامة!» تلك هي الكلمات التي تلفظ بها الدكتور «زنكو هيرينكو» Zenko Hrynkiw لحشد من الصحافيين الذين أحاطوا به في مركز ترينتي الطبي Trinity Medical Center حيث يعمل جراحًا للأعصاب. كان الدكتور «هيرينكو» في مركز بروكوود الطبي Brookwood Medical Center في برمنجهام بإنجلترا يوم الثلاثاء الموافق 28 يناير 2014، حين ضربت عاصفة ثلجية المدينة بعنف.

وقتها تلقى إشارة بأن مريضًا بمركز تريتني الطبي قد ساءت حالته، وهو في حاجة لإجراء جراحة عاجلة، ولا يوجد طبيب آخر للقيام بها. لم تكن قيادة السيارة خيارًا جيدًا لـ «هيرينكو» بسبب تراكم الثلوج على الطرقات، وكان عمال الإغاثة مشغولون بعدة حالات. أما المريض فقد كان احتمال وفاته دون إجراء الجراحة يصل إلى نسبة 90 بالمائة.

تصرف إنساني من طبيب مخلص

وضع «هيرينكو» معطفه فوق رداء غرفة العمليات الذي كان يرتديه بالفعل وانطلق مشيًا على الأقدام لمسافة ستة أميال تزيدها العاصفة والثلوج مشقة (الميل الواحد يُساوي 1.609344 كيلومتر). وفي طريقه سقط «زنكو» متدحرجًا من فوق إحدى التلال، ثم عاد وساعد بعض السائقين الذين كانوا عالقين على الطريق، واستمر في رحلته إلى مركز ترينتي الطبي. لم يجد «زنكو»، البالغ من العمر وقتئذٍ اثنين وستين عامًا، شيئًا أهم من أن يصل إلى غرفة العمليات.

يقول «هيرينكو»: «لقد كان المريض يحتضر، وسوف يموت قطعًا إذا لم أُجر له الجراحة، ولن يحدث ذلك في ورديتي.. لقد أنقذت حياة إنسان! أتدرون ما معنى كلمة إنسان؟».

اضغط على الاعلان لو أعجبك

أما «كيث جرانجر» Keith Granger، المدير التنفيذي لمركز ترينتي، فيقول: «لم يكن الموضوع بهذه البساطة التي تحدث بها «هيرينكو»؛ لم تكن رحلته عبر الثلوج مجرد نزهة في حديقة، إن ما فعله في مثل هذه الظروف يُعد إنجازًا بدنيًا وعقليًا جديرًا بالاعتبار، ولدينا اليوم شخصٌ على قيد الحياة، كان من الممكن أن يكون في عداد الأموات لولا ما بذله زنكو من جهد».

ما أندر الإنسان

في ثقافتنا التي تُقدس الأبطال، بل وتصنع من بعض الناس أبطالًا بشكلٍ زائف، خوفًا أو تملقًا ونفاقًا، هل يمكن لشخصٍ حاز لقب البطل أن يرفض هذه التسمية مثلما فعل «هيرينكو»، مؤكدًا أنه كان يقوم فقط بعمله، وأن كلًا منا عليه أن يقوم راضيًا بما يتحتم عليه فعله كإنسان؟!

بعبارة أخرى، هل نستحق الثناء حين نؤدي عملنا بإخلاص، ودون أن نُسمي ذلك إنجازًا أو نمُن به على الناس أو نتباهى به أمام الكاميرات وعلى صفحات التواصل الاجتماعي؟! ألا يُفترض بأحدنا –إن كان بإمكانه إنقاذ حياة شخصٍ ما– أن يمشي لمسافة ستة أميال، أو يقفز في الماء البارد، أو يتبرع بدمه، أو يؤجل متعة حياتية عابرة، راضيًا ومقتنعًا بأن هذا واجبه، وأنه لا يقوم بفعلٍ خارق؟!

آمل أن تكون الإجابة «نعم»، بافتراض أننا قادرون على ذلك بدنيًا، ومع ذلك، لا بأس من أن يكون بعضنا قدوةً حسنة للبعض الآخر، نعرفهم بأفعالهم لكي نعرف المعنى الحقيقي للإنسانية، بلا لون، أو عرق، أو دين، أو أيديولوجيا.. حقًا، ما أكثر الناس، وما أندر الإنسان، وما أكثر من يتدثرون بالرداء الأبيض، وما أندر الطبيب الحق!

اقرأ أيضاً:

قيمة كل امرئ ما يحسنه

اضغط على الاعلان لو أعجبك

خُلُق العطاء

من تاريخ الطب النفسي

* تنويه: الأفكار المذكورة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع.

أ. د. صلاح عثمان

أستاذ المنطق وفلسفة العلم – رئيس قسم الفلسفة – كلية الآداب – جامعة المنوفية

مقالات ذات صلة