مقالات

كيف نستفيد من النقد؟

أهمية النقد

النقد القائم على التحيز والبعيد عن الموضوعية والإنصاف يسهل القيام به من أي إنسان، ولكنه بالمقابل لا يحمل أي قيمة لمن يوجه إليه النقد، وفي أحيان كثيرة لا يلتفت إليه ولا يعيره أي اهتمام.

والنقد لا يُظهر -فقط- مساحات القبح والقصور كما هو مشهور عند البعض، ولكنه يُظهر مساحات الجمال والكمال في الموضوع المنقود كما يبين مكامن الخلل وثغرات القصور، وإن كان النقد قد أخذ مسار البحث عن العيوب ومكامن الخطأ. ومع هذا تبقى “مرارة النقد” المنصف عند من يدرك أهميته أحلى من “حلاوة المدح” الذي يقال ويكال أحيانا بلا حساب وبكرم حاتمي، وإن كنا كبشر نفضل الثاني على الأول.

إن النقد الموضوعي المنصف الذي يظهر العيوب والقصور يزرع لدينا الحصانة ويرفع مستوى الوعي لدينا، ويمكِّننا من مغادرة استراحة الاسترخاء الفكري، إنه يرسخ لدينا قاعدة أن الزاوية التي نرى منها ليست الزاوية الوحيدة، بل ليست الزاوية الأوسع والأوضح والأصفى لرؤية هذا الموضوع، وأن زوايا الرؤية لدى الآخرين وكذا وجهات نظرهم ربما تكون الأقرب إلى الصواب، وإن حزَّ ذلك في نفوسنا وتقبلناه على مضض.

ولذا كثيرا ما نعجب من حملات النقد القاسي لدى الغربيين في حواراتهم ونقاشاتهم مع بعضهم، ولكنها تبقى في إطار النقد المقبول أو المرفوض، مع بقاء التواصل والتعاون والانسجام في جماعة العمل الواحدة، وهذا يدل على أنهم استطاعوا أن يؤسسوا للنقد قواعد تتجاوز العواطف ولا تلغيها، كما أنهم استطاعوا أن يوجدوا نوعا من الحصانة التي تقيهم الانزلاق إلى مربع القطيعة أو رفض الآخر المحاور مع نقده.

اضغط على الاعلان لو أعجبك

لماذا لا نقبل النقد؟

بينما يختلف الحال لدينا كثيرا، فلا زالت ملَكَة تقبل الرأي المخالف والرجوع إلى الرأي الذي تبين صوابه مع الآخر أو حتى العودة خطوة إلى الوراء صعب جدا، ونعتبر ذلك “مسألة كرامة”، وتنازل غير مقبول ومنح الآخر نقاطا تضاف إلى رصيده وتسحب من رصيد خصمه.

وفي رأيي أن هذا الأمر يعود إلى نوع من الهشاشة والضعف لدينا، مهما ادَّعينا أننا موضوعيون ومنصفون ومحايدون وباحثون عن الحقيقة بدليلها وبرهانها، لكن مواقفنا وردود أفعالنا تفضحنا، وتظهر مدى هشاشتنا أمام رأي الآخر المخالف لنا، فإما أن نكيل له الصاع صاعين، وإما أن نهمل ما قال إهمالا تاما، لا لأنه لا يستحق الرد أو التعقيب، ولكن لأننا لا نريد أن نقول أن لديه بعضا من الحقيقة التي لا تطيب أنفسنا بأن نعترف له بها، ولذلك نصمت صمت المُغضب الذي يعد أسلحته ويشحذها متحينا الفرصة لينقض على خصمه ويسقطه أرضا بالضربة القاضية.

معاناة المفكر الصادق

كم هي معاناة المفكر المنصف والموضوعي عندما يريد أن يطرح موضوعا أو يعلق على آخر، أقول كم هي معاناته عندما يكتب وهو يحس في قرارة نفسه أنه يمشي في “حقل ألغام” من الكلمات، يخشى أن يقول هذه الكلمة فيتحسس فلان، أو يورد تلك العبارة فتثور ثائرة آخر، فهو في حوار داخلي مستمر مع نفسه، يغير هذه الكلمة، ويعدل هذه العبارة، ويخفف من هذا الحكم، ويرشِّد هذا التعميم، ويصبغ هذا الرأي بصبغة عدم اليقين، ويحاول -أحيانا- أن يمدح من وما لا يستحق المدح، ويطري ما لا يستأهل الإطراء، لا لشيء إلا لكي يتم قبول “بضاعته المزجاة” ورأيه المتهم وطرحه الخارج عن الموضوعية والإنصاف.. ويالها من معاناة.

المفكر الصادق قليل الجزم في القضايا الاجتهادية يتردد كثيرا في إصدار الحكم وإبراز التعميم، وليس ذلك لقلة ما يملك من معلومات حول هذا الموضوع، بل لكثرة ما لديه من معلومات حوله مع إلمامه بإشكالاته ومعضلاته، فهو كلما أقدم على حسم رأي حول موضوع ما أتته أفكاره المتنوعة والمتشعبة بما ينقض ما قال أو يشكك فيه أو يخفف من يقينيته،

فيعاود الكرة من جديد تحقيقا وتمحيصا وإعادة نظر، فإذا صدر عنه حكم أو تعميم جديد كان متواضعا في عدم الجزم به، بل تجده يعتذر بين يدي ما يقدمه، ويستعمل عبارات لا تدل على الجزم والحسم، بل تجده يردد كلمات مثل:”إلى حد ما، تقريبا، حسب رأيي، هذا ما هداني إليه تفكيري، هذا ما استطعت الوصول إليه، وهذا ما لا أستطيع الجزم به” وأشباه هذه العبارات.

اضغط على الاعلان لو أعجبك

نحن في أمس الحاجة لتقبل النقد

إن نظر المفكر صاحب الملكة الفكرية الراسخة في القضية الفكرية المطروحة عليه يكون أتم وأشمل، أما لماذا؟ فلأنه عندما يضع تصورا لتلك القضية فإنه يستصحب كل الاحتمالات ويورد كل الإشكالات والمعضلات، وهذا هو الحال الذي يجعله يتوقف ويتريث، وأحيانا يتردد، لا لقلة علم بالموضوع -كما أسلفنا- ولكن لاتساع الرؤية وتعدد الزوايا وتداخل الأمور وتشابكها.

وهذه مزية في الفقيه كما في المفكر كما يقول المناوي: “إن المجتهد كلما ازداد علما وتدقيقا وكان نظره أتم انفتاحا وتحقيقا تكاثرت عليه الإشكالات الموجبة للتوقف لديه، وتزاحمت المعضلات بين يديه”. وهناك من اتهم الإمام الشافعي بقلة العلم نظرا لتردده في بعض المسائل الفقهية، إذ لو لم يكن للشافعي على غيره من مزية ورجحان إلا بتردده في بعض أقواله لكفانا كفاية ومقنعا، فإنه ما نشأ تردد أقواله إلا لفائض نظره ودقيق فكره لهذه الخبايا والخفايا.

نحن في أمس الحاجة إلى أن نعيد النظر فيما نقول نقدا للآخرين، فنعيد تقويمه، كما نعيد النظر فيما نُنتَقَد به من قبل الآخرين فنعيد توجيهه الوجهة الصحيحة لنستفيد منه. وقد جرينا في مقالنا هذا على استعمال كلمة “النقد” نظرا لشهرتها وكثرة تداولها وإلا فإن المصطلح الإسلامي الإيجابي لمثل هذه الكلمة هي “النصيحة”، التي تعبر عن ديننا بمجمله (فالدين النصيحة) كما في حديث النبي صلى الله عليه وسلم. ألا ما أجمل اليوم الذي أتصوره في مخيلتي، عندما يقال لمن يقدم النقد (النصيحة) بكل ترحاب: “رحم الله امرأً أهدى إليَّ عيوبي”. عندها سنكون قد وصلنا إلى جَنَى النصيحة الداني.

* تنويه: الأفكار المذكورة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع.

اقرأ أيضاً:

الهروب من النقد!

عقلي ليس للبيع وليس متحفا للعرض

اضغط على الاعلان لو أعجبك

فكرة الشخصنة .. ضياع للحكمة

د. يحيى أحمد المرهبي

أستاذ أصول التربية المساعد كلية التربية والعلوم التطبيقية والآداب – جامعة عمران. الجمهورية اليمنية.

مقالات ذات صلة