مقالات

عالم ما بعد الحقيقة – الجزء الثالث

يتطرق الباحثون أيضًا إلى الفيلسوفة الألمانية «حنة أرندت» التي أكدت في مقالها المذكور أعلاه (الحقيقة والسياسة) أنه رغم كون الأكاذيب بمثابة أدوات ضرورية ومُبررة للساسة ورجال الدولة عبر عصور التاريخ المختلفة، إلا أن الحقيقة الفعلية التي تتعارض مع مصالح بعض الأفراد والمجموعات السياسية باتت هدفًا عدائيًا أكثر من أي وقت مضى.

ولعل أكبر خصم للحقيقة الفعلية –وفقًا لأرندت– هو الرأي وليس الكذب، لا سيما في ضوء النزوع الحالي للتمويه بين الحقيقة والرأي، فعندما يريد الكاذب إخفاء كذبة بعينها، فإنه يصفها بأنها مجرد رأي شخصي له، وكأي شخص في دولة ديموقراطية (ولو من حيث المظهر) يدفع بحقه في التمتع بحرية التعبير عن رأيه!

ومع أن الحقيقة لا تخلو بالفعل من التفسيرات والمنظورات الشخصية، فإن هذا الموقف لا يمكن أن يكون بمثابة حُجة ضد إمكانية وجود الحقائق ودعمها بالمعطيات الواقعية، ولا يُمكن أن يُبرر عدم وجود حدود فاصلة بين الحقيقة والرأي.

الأكاذيب بين الماضي والحاضر

هذا التداخل بين الحقيقة والرأي تُعززه وسائل الإعلام، ومع ذلك، بينما كانت الأكاذيب في الماضي مُوجهة عادة ضد الأفراد، وبشكل أساسي ضد الأعداء في الخارج، فإن الأكاذيب اليوم تُوجه بشكل أساسي ضد رعايا الدولة في الداخل، الأمر الذي يُفسر نظرة الجمهور إلى رواة الحقيقة المحليين على أنهم أكثر خطورة وأشد عدائية من رواتها في الخارج!

اضغط على الاعلان لو أعجبك

لا شك أن كلا من «جورج أورويل» و«حنة أرندت» كانا بارزين في وصف ظاهرة «ما بعد الحقيقة» وتحديد ماهيتها، لكن ما الجديد لدى فلاسفة ومفكري اليوم؟ ولماذا كل هذا الاهتمام الصاخب بظاهرةٍ قديمة؟

يذهب المؤرخ الإسرائيلي «يوفال نوح هراري» Yuval Noah Harari إلى أن «الحقيقة» في أيامنا الحالية ليست أسوأ مما كانت عليه في الماضي البعيد والقريب، بل لقد كانت المعلومات المُضللة و الأكاذيب السياسية –وما زالت– بمثابة الوقود المُحرك للتاريخ دومًا، بما في إنكار دول بأكملها وإنشاء دول مزيفة، ففي سنة 1931، شن الجيش الياباني هجمات وهمية على نفسه لتبرير غزوه للصين، ثم أنشأ دولة «مانشوكو» Manchukuo المزيفة لإضفاء الشرعية على فتوحاته.

كذلك راج الشعار الصهيوني الكاذب: شعبٌ بلا أرض (اليهود) لأرض بلا شعب (فلسطين)، وفي سنة 1969 أطلقت رئيسة الوزراء الإسرائيلية «جولدا مائير» Golda Meir مقولتها المشهورة: «لا يوجد شعب فلسطيني، ولم يكن موجودًا قط». مثل هذه الآراء شائعة جدًا في إسرائيل حتى اليوم، على الرغم من عقود من النزاعات المسلحة ضد شيء غير موجود!

التكنولوجيا وأثرها في تمييع الحقيقة

هكذا عاش البشر دائمًا في عصر ما بعد الحقيقة، وما الإنسان العاقل ذاته Homo sapiens سوى نوع مميز بظاهرة ما بعد الحقيقة، حيث تعتمد قوته على خلق القصص الخيالية والافتراءات ثم تصديقها. ومنذ العصر الحجري، عملت الأساطير ذاتية التعزيز على توحيد الجماعات البشرية، وبسط الإنسان العاقل سلطانه على هذا الكوكب بفضل قدرته على خلق ونشر الأساطير.

نعم، لقد فضَّل الإنسان العاقل دائمًا القوة على الحقيقة، واستثمر وقتًا وجهدًا أكبر في حكم العالم أكثر من محاولة فهمه، وما يجعل الاتجاه الحالي لتمييع الحقيقة مختلفًا هو التكنولوجيا، تلك التي تمكننا من توجيه الدعاية على أساس فردي، وتصميم الأكاذيب بما يُطابق التحيزات الفردية،

اضغط على الاعلان لو أعجبك

وأتاحت لصُناع القرار خوارزميات وبيانات ضخمة لتحديد نقاط الضعف والميول الفريدة لكل شخص ثم اختلاق قصص تتفق معها، ومن ثم تُستخدم هذه القصص لتعزيز الأحكام المسبقة لدى أولئك الذين يؤمنون بها، وتعميق الانقسامات في المجتمع، وثقب النظام الديموقراطي من الداخل.

الفيلسوف الأمريكي “لي ماكنتاير”

أما الفيلسوف الأمريكي «لي ماكنتاير» Lee McIntyre فقد ذهب إلى أن الابتكار في ظاهرة ما بعد الحقيقة ليس هو نفي وجود الحقيقة، بل هو إخضاع الحقائق للتصورات الشخصية المسبقة والمنظور الذاتي، ففي حقبة ما بعد الحقيقة تكون بعض الحقائق أكثر أهمية من غيرها، والمعيار الذي يستخدمه الشخص لتفضيل حقيقة على أخرى هو مدى توافق هذه الحقيقة مع رأيه ومنظوره الشخصي.

يؤكد «ماكنتاير» أيضًا أن ظاهرة ما بعد الحقيقة لا تقتصر فقط على المجال السياسي، بل تشمل كافة مجالات الحياة المعاصرة، بدايةً من إنكار الحقائق العلمية حول التدخين، والتطور، وتغير المناخ، ومرورًا بالرؤى الفردية على وسائل التواصل الاجتماعي، ووصولا إلى حرب اللقاحات (التي تجلت في خضم أزمة انتشار فيروس كورونا)، فكل هذا يقدم لنا خارطة طريق لمزيد من فهم الظاهرة في سياقها المعاصر.

التمييز بين الكذب والهراء

من جانبه، خصص الفيلسوف الأمريكي «هاري فرانكفورت» Harry Frankfurt كتابه «عن الهراء» On Bullshit (2005) للتمييز بين «الكذب» و«الهراء»، فالكاذب يعرف الحقيقة ويهتم بها لكنه يسعى إلى إخفائها، أما من ينطق بالهراء فلا يهتم بما إذا كان ما يقوله صادقًا أو كاذبًا، بل بما إذا كان المستمع مقتنعًا أم لا!

وبعبارة أخرى، الفارق الرئيس بين الكذب والهراء يتمثل في القصد والخداع، فالقصد من وراء الكذب هو إبعاد الناس عن اكتشاف الحقيقة، أما القصد من وراء الهراء فهو تجاهل الحقيقة، وبينما يُنظر إلى الكاذب على أنه مُخادع أو مؤذٍ نظرًا للنية المصاحبة لفعل الكذب، فإن الناطق بالهراء يفتقر إلى النية الهادفة إلى إنكار الحقيقة، ومن ثم فالهراء أكثر خطورة على الحقيقة من الكذب، وهو العدو الحقيقي لها!

اضغط على الاعلان لو أعجبك

إذا أردنا فهمًا دقيقًا لظاهرة «ما بعد الحقيقة»

من جهة أخرى، يذهب الصحافي البريطاني «ماثيو دانكونا» Matthew D’Ancona إلى أن الجديد في هذا العصر –فيما يتعلق بمفهوم الحقيقة– ليس الخيانة المألوفة للسياسيين (حيث الكذب هو القاعدة)، وإنما رد فعل الجمهور، فالعواطف تمثل تهديدًا للتفكير العقلاني، والتشكيك والازدراء يُمثلان تهديدًا للعلم،

والتفسيرات الذاتية والروايات المشوبة بالعاطفة تحل بسهولة محل الحقائق الموضوعية، ولم يعد الخبراء في نظر العامة مصدرًا للمعلومات أو المعرفة الموثوقة، بل مجرد أذرع تضليلية للقوى السياسية المهيمنة. ولعل أبرز خصائص ظاهرة ما بعد الحقيقة تنوع تفسيراتها، بالإضافة إلى الارتباك المحيط بها وصعوبة فهمها!

أخيرًا، تؤكد «حنة أرندت» في مقالتها «التفاهم والسياسة» Understanding and Politics (1953) أن الاعتراف بظاهرة جديدة يُقابله اعتماد مصطلح لُغوي جديد، وهو ما يمثل بداية عملية لفهمها، ولكي تكون قادرًا على فهم أي مصطلح جديد، يجب أن ينطوي مدلوله على شيء قديم ومألوف.

هنا مثلاً نجد أن مصطلح «ما بعد الحقيقة» ينطوي على مفهوم «الحقيقة»، وهو مفهوم مألوف ومفهوم ظاهريًا. وتذهب «حنة أرندت» إلى أنه في هذه المرحلة من عملية الفهم، حيث يتم تكوين نوع من الفهم الأولي للظاهرة الجديدة، يعتمد فهمنا لظاهرة «ما بعد الحقيقة» على فهمنا للفترة التي كان يُنظر فيها إلى الحقيقة على أنها مهمة ومُلحة، لذا من الضروري إذا أردنا فهمًا دقيقًا لظاهرة «ما بعد الحقيقة»، مسح النظريات الرئيسة المتعلقة بمفهوم «الحقيقة» عبر تاريخ الفلسفة!

اقرأ أيضاً:

الجزء الأول من المقال 

اضغط على الاعلان لو أعجبك

الجزء الثاني من المقال

الغرب البدائي وتقديس إسرائيل

* تنويه: الأفكار المذكورة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع.

أ. د. صلاح عثمان

أستاذ المنطق وفلسفة العلم – رئيس قسم الفلسفة – كلية الآداب – جامعة المنوفية

مقالات ذات صلة