إصداراتمقالات

كيف أصل الى السعادة الحقيقية ؟

كيف أصل الى السعادة الحقيقية ؟

يولد الإنسان وبداخله ميل واستعداد فطري للبحث عن مسببات الخير والسعادة والسعي نحو معرفة هذه الأسباب  من أجل تحصيل السعادة واكتسابها وبالتوازي فهذا الميل نفسه هو ما يجنح بالإنسان إلى الابتعاد عن كل مسببات الشقاء والألم.. فكل إنسان مهما اختلفت صفاته وطبائعه وثقافته وعلمه يريد أن يحيا سعيداً هانئاً وأن يبتعد قدر الإمكان عن كل ما قد يجلب عليه من التعاسة والشقاء .. وبالرغم من وجود هذا الميل والإستعداد الفطري لدى عموم البشر إلا أنهم قد اختلفوا في تحديد أسباب ومسببات السعادة بالنسبة لكل منهم فأصبح البعض يرى سعادته في أن يعيش حياة مادية مرفهة تتذلل فيها كل العقبات أمام الاستمتاع بالملذات المادية من طعام وشراب وسكن وأدوات تلبية الإحتياجات بأقل جهد وطاقة وبالشكل الذي يعظم من لذة الإستمتاع إلى أقصى حد، ومنهم من شخص سعادته في أن يعيش قانعاً راضياً هادئ البال يكتفي بما يوفر له احتياجاته الأساسية، ومنهم من رأى أن سعادته هي في معرفة الإله الخالق والتنعم بلذة عبادته والقرب منه.

ولا يوجد منكر أن كل تلك الأسباب باعثة على الشعور بالسعادة بشكل أو بآخر، فهل هم جميعاً متساوين؟ وإذا كان الهدف الأساسى لكل إنسان عاقل أن يحيا سعيدًا متتبعًاً فطرته فهل تصبح هنا قضية البحث عن السعادة متروكة لتشخيص كل فرد حسبما يقتضي أم أن هناك تعريفاً واضحاً لمعنى السعادة الحقيقية؟

إن الاجابة عن هذا السؤال تقتضي البحث عن مفهوم السعادة ومفهوم مسبباتها؛ أما السعادة فكما اتفق غالبية الحكماء والفلاسفة فهي شعور باللذة ينطبع على النفس الإنسانية مما يسبب لها حالة من النشوة والفرح، ودقة التعريف هنا تأتى من أن حالة السعادة هي حالة نفسانية خالصة ولا علاقة للجسد فيها، فمن يشعر هي النفس ومن يتألم ويفرح ويحزن ويخاف هي النفس وليس الجسد . أما عن مسببات السعادة فيصنفها الحكماء بجميع أشكالها تحت عنوان (الكمال) أى أن ما يسبب للإنسان هذا الشعور باللذة والسعادة هو ما يتسبب في اكتمال الإنسان بسد جوانب النقص فيه حتى إذا ما وصل لهذه الحالة (الكمال) أو الاكتمال وصل عندها لأقصى درجات السعادة .. فإذا ما حاولنا مزيدًاً من التفسير وجدنا أن هذا الكمال مرتبط بما هو خير وما هو نافع وما هو فضيلة للإنسان، حتى يمكن القول بأن مسببات الخير أو النفع أو الفضيلة للإنسان هي جميعها أسباب مقومة لتكامله بما هو إنسان، وبالتالي فإن ما يسبب للإنسان الشر أو الضرر أو الرذيلة هي أسباب تؤدى إلى تسافل أو تناقص الإنسان بما هو إنسان، وهو ما يسبب الشقاء والألم كحالة نفسانية نقيضة لحالة السعادة والفرح، أو كما يقول الشيخ الرئيس ابن سينا في ذلك (إن اللذة هى إدراك ونيل لوصول ما هو عند المدرك كمال وخير من حيث هو ذلك، والألم هو إدراك ونيل لوصول ما هو عند المدرك آفة وشر)[1]

اضغط على الاعلان لو أعجبك

وعبارة “بما هو إنسان” المراد منها فهم حقيقة الإنسان ليتسنى لنا فهم حقيقة مكوناته التي تسعى للتكامل، فإذا سلمنا بأن الإنسان مكون من جسد (مادة) ونفس (مجردة) بهذا يكون على الإنسان السعي نحو ما يسد النقص ويجبر الخلل ويشبع الإحتياجات لكل منهما بما يحقق العدالة والتوازن للإنسان، أو كما يقول ابن سينا أيضاً أن كل قوة مدركة في الإنسان لها كمالها أى ما يعينها على إدراك التمام والكمال لهذه القوة، فالجسد له كماله كما أن النفس لها كمالها وهو فى كل الحالات إتمام الشئ لوظيفته أو الغاية المطلوبة منه، فمثلًا القوى الحسية الذوقية في الإنسان كمالها في إدراكها للطعوم، فإذا كان الإدراك الخاص بالقوى المدركة تاماً وصلت تلك القوى لكمالها.  وبمثال توضيحي آخر للتشبيه، فكمال الإناء مثلًا هو في امتلائه حتى آخره وبما تستوعب أقصى طاقته وحجمه، وكمال جهاز الحاسب هو في إتمامه لمهماته الحسابية التي وُظّف لأدائها على القدر الذي تستوعبه طاقته التشغيلية والتخزينية وهكذا ..

وعودة إلى الإنسان وما يحقق له السعادة الحقيقية ، أصبحت أهمية البحث عن أنواع الكمال لديه وتصنيفاته للوقوف على طبيعته ودقائقه، أما الفلاسفة فقد قسموا الكمالات إلى قسمين؛ الكمالات الوهمية والكمالات الحقيقية، وهذا التقسيم هو بلحاظ ما كان تأثيره بالسعادة واللذة في الإنسان دائم ومستمر لا ينقطع ولا يتسبب طلب المزيد منه إلا في زيادة قوة الشعور بالسعادة واللذة، فما كان كذلك اندرج تحت تصنيف الكمالات الحقيقية مثل العلم النافع واكتساب الإنسان للملكات الأخلاقية الفاضلة، ولتصور هذا المعنى يمكن تصور أن تحصّل الإنسان على معلومة ما، يسبب للإنسان حالة من البهجة والسعادة، فإذا كانت هذه المعرفة ستظل معلومة لدى الإنسان ولن يجهلها مرة أخرى فدوام معرفته لها سيظل يتسبب في دوام شعوره بالسعادة كما أن طلبه لمزيد من العلم لن يؤدي سوى لمزيد من الشعور بالسعادة ، أيضاً فالإنسان الذي اكتسب صفة الشجاعة أو الكرم أو العفة ستظل تلك الصفة مسببة لسعادته كونه أصبح متصفاً بها وكلما مارسها كلما أمعن ذلك في زيادة شعوره بالسعادة. على الجانب الآخر فإن الكمالات الوهمية هي ما كان تأثيرها بالسعادة تأثير وقتي متقطع لا يدوم ولا يستمر كما أن طلب المزيد منها ربما يؤدي إلى النقيض وهو الشعور بالتعاسة والألم، وهي كما صنفها الحكماء أيضاً في الكمالات الحسية مثل الطعام والشراب والنكاح، فالشعور باللذة نتيجة الشبع سيدوم لفترة ثم ينقطع ليعود بعدها الشعور بالجوع مرة أخرى، كما أن تناول الطعام بشكل مستمر ودائم سيتحول بعد حين إلى مسبب للألم عند الإنسان يسعى معه للتوقف عن مزيد من الطلب، وهكذا هي باقى الكمالات الوهمية الأخرى كالكمالات المرتبطة بالمادة مثل طلب الجاه والشهرة والسلطة، والكمالات الخيالية كالشعر والموسيقى.. فالشخص الذي يسعى للسيطرة والتحكم يرتبط لديه الشعور بهذه النشوة و السعادة باستمرار وجود من يحكمهم أو ما يُراد السيطرة عليه، وهو الأمر الذي سيتنهي وإن طال، وهو ما يفسر شعور البعض بالضيق والإكتئاب والحزن وربما الرغبة في الإنتحاربعد وصولهم لحالة من الرفاهية الكاملة والسيطرة على كل شىء وبعد أن ذللت لهم جميع العقبات، فانتفاء ما يحتاج للإخضاع ينتهي معه الشعور باللذة و السعادة الناتجة من نشوة السلطة والتحكم.

سيقول البعض إذن فتلك الكمالات الوهمية هي غير ضرورية أو ربما يصل إليه الإيحاء بعدم أهميتها أو الدعوة إلى إنكارها وهذا غير صحيح، فهذا التقسيم الذي صنف الكمالات إلى ما هو حقيقي وما هو وهمي لا يمكنه إنكار حاجة الإنسان إليها ولكنه فقط يضع تلك الحاجة في مقدارها ويحدد درجة أولويتها لدى الإنسان، فعودة إلى تعريف الإنسان كجسد ونفس يمكن منه إدراك وجود نقص لدى كل من الجسد والنفس ينبغى الإنسان أن يسعى إلى إتمامه، فالحاجة إلى الطعام والشراب والنوم مثلًا هي حاجات ضرورية أساسية لن يستغنى عنها الجسد الإنسانى، فقط ينبغى التفرقة بين الحالة النفسية الناتجة عن هذه الكمالات المادية أو الوهمية وعن الحالة النفسية الأخرى الناتجة عن الكمالات الحقيقية، فالأولى ينتج عنها فقط ما يسمى بحالة (الراحة) أو الحالة (الطبيعية) وهى ما يعرفها العلماء بحالة التهيئة والإعداد النفسي التي تكون فيها النفس على استعداد لإكتساب غيرها من الكمالات الحقيقية، أو كما نقول فإن الإنسان الجائع لن يفكر والإنسان الخائف لن يرتقي، وحالة الراحة هذه لا تؤدى بذاتها إلى حالة السعادة واللذة بل فقط تضع الإنسان في وضع مستقر نفسياً أو متعادل، وبمفهوم أكثر إجمالاً هي الحالة التي تنتج من التخلص من كل مسببات الألم للنفس قبل البدء في اكتساب مسببات السعادة ، فإشباع ألم الجوع والعطش أو التخلص من التأثير النفسي السلبي لبعض أمراض النفس مثل الخوف والكراهية والحقد هو فقط كافي للوصول لحالة النفس السوية المعدة والمهيئة للدخول في حالات أكثر إمتاعاً واستكمالاً لدى الإنسان بعد اكتسابه للكمالات الحقيقية الخاصة بجوهر النفس الإنسانية ..

بناءً على هذا التقسيم الهام يمكن لنا أن يتضح مفهوم السعادة الحقيقية ومعرفة الأسباب المؤدية إليه ليصبح على الإنسان العاقل أن يسعى لتحقيقها عبر ما يختار فعله بإرادته من أفعال تؤدى إلى اكتساب تلك الكمالات أو كما يقول الإمام محمد عبده (إن الإنسان فاعل مختار يتكامل بأفعاله الإرادية) فإذا أردنا لإنسان هذه المجتمع أن يتكامل وينهض فعلينا أولاً أن نوفر له حاجاته الأساسية من العيش والأمن والكرامة ثم نوفر له ثانياً في ظل هذا المناخ الطبيعي ما يساعده على التكامل والترقي باكتساب العلم النافع والأخلاق الفاضلة ليصبح إنساناً كما يجب أن يكون، ومن المعروف أن صلاح الإنسان من صلاح المجتمع .. ربما من خلال هذا التنويه يمكن إدراك أن الوصول للمجتمع الفاضل المتكامل الذي يحقق الكمال ويسد الاحتياج والنقص للإنسان بشقيه المادي والروحي هو نفس المجتمع العادل الذي لا يميل ولا يفرط في حساب جانب على حساب الآخر بل يدرك أهمية كل احتياج ويصنف الأولويات ثم يسعى إلى تحقيقها وهو الأمر الممكن وليس بالمستحيل فقط لمن يملك إرادة الاختيار..

 

اضغط على الاعلان لو أعجبك

لقراءة المزيد من المقالات يرجى زيارة هذا الرابط.

ندعوكم لزيارة قناة أكاديمية بالعقل نبدأ على اليوتيوب.

دينا خطاب

باحثة في علوم التفكير والمعرفة

فريق مشروعنا بالعقل نبدأ بالقاهرة

مقالات ذات صلة