مقالات

المادية هلاك للإنسانية – الجزء الثاني

أوغست كونت والنظرة إلي الخالق

“أوغست كونت” هو عالم اجتماع وفيلسوف اجتماعي فرنسي، ويعتبر من أعطى لمفهوم علم الاجتماع الاسم الذي يُعرف به الآن، وقد أكد ضرورة بناء النظريات العلمية على الملاحظة، إلا أن كتاباته كانت على جانب من التأمل الفلسفي التجريبي (إن صح التعبير)، ويعد هو نفسه الأب الشرعي والمؤسس للفلسفة الوضعية، وهو يعتبر تلميذًا لـ “سان سايمون” وهو فيلسوف فرنسي.

سان سيمون وتأثر فكر كونت به

وقد تأثر ” كونت” كثيرًا بأفكار “سان سيمون” وهو مفكر اشتراكي ساهمت أفكاره كثيرًا في نمط أفكار الثورة الفرنسية. كان يعتبر أن ميدانه هو الفيزياء الاجتماعية (إن صح التعبير).

حيث أنه كان يعتقد إمكانية تحليل المجتمع عن طريق التحليل الفيزيائي! و يمكننا من خلال هذا النمط من الدراسة أن نصل من خلال دراسة تاريخ المجتمع إلى علم ” يقيني” كما عليه الحال في العلوم الطبيعية.

ينقل لنا “فلاماريون ” وهو مؤلف وكاتب وعالم فلك فرنسي متعمق في العلوم الشعبية مثل علم الفلك وعلم النفس والكثير من العلوم – عن “أوغست كونت” قولا يعبر عن الصورة التي كان يتصورها آنذاك العلماء أمثال “كونت” عن الإله الخالق لهذا الوجود، إذ يقول ” كونت” ( لقد عزل العلم أبا الطبيعة عن عمله وساقه إلى الانعزال، بعد أن قدر له خدماته المؤقتة وقاده إلى قمة عظمته).

اضغط على الاعلان لو أعجبك

وهو يقصد بذلك القول أن الحوادث التي كانت تحدث في الماضي كانت تُعلل بالاستناد إلى الله. فعندما كان يصاب الشخص بمرض ما؛ كان يتساءل الناس من أوجد المرض؟! وما سبب المرض؟! والجواب حينذاك هو أن الله هو من أوجد المرض، ولكن لم يعنِ هذا الجواب في عقول الناس أن الله عليم وحكيم ومدبر للكون بحكمة وعدل ورحمة، لا..

إقالتهم لدور الإله

لم يكن هذا التصور هو السائد بل السائد وقتها اعتقادًا أن الله مثله مثل الموجود الخيالي أو الساحر الذي يسحر من عالم غيبي، فقد صمم فجأة المرض وبدون أي مقدمات وخلق المرض ، ويري أوغست كونت أن العلم جاء بعد ذلك؛ فاكتشف علة المرض أنها ليست من الله وإنما من نوع من الميكروبات؛ وهنا تراجع الله خطوة إلي الوراء، ثم اكتشف العلم علة وجود الميكروبات نفسها، فتراجع الله خطوة أخرى إلى الوراء ، وهكذا اكتشف العلم العلة تلو الأخرى، ويتراجع الله الخطوة تلو الأخرى بالمقدار الذي اتسعت به العلوم والمعارف الإنسانية.

فأقال الإنسان الله الخالق من عمله؛ لأنه قد استنفذ غرض الإيمان به، فلا محل له في علل الوجود بعد أن كشف العلم العلل المادية، وكان الله في نظره شبيه بعامل له أعمال مهمة انتظر حتى يأتي أفراد ذو خبرة ويتعرفوا على تفاصيل العمل ويفقد هو دوره ووظيفته ومهامه بالتدريج ويبقى بلا عمل وحينها يقدم له مدير المؤسسة شهادة تقدير على خدماته ويقبل استقالته إلى الأبد.

نظرة أصحاب الرؤية المادية

ومن الملاحظ هنا تأثير المفاهيم الكنَسية الخاطئة التي كانت سائدة في تلك الفترة، كما أشرنا في المقال الأول من السلسة (المادية هلاك الإنسانية)،حيث يظهر بوضوح ذلك التأثير من تسمية “أوغست كونت” التي عبر بها عن الخالق بأنه ” أبو الطبيعة ” هذا تعبير يمثل تلك المفاهيم التي كانت سائدة في وقته وبالرغم من أنه كان يخالف الكنيسة في وقته، إلا أن أسلوب تفكيره أسلوب كنسي؛ إذ لم يستطع أن يحرر فكره من تأثيراتها الفكرية ، ففكر من نفس المنظور الذي كان سائدًا.

ويمكن لنا بملاحظة أسلوب التفكير في تلك المرحلة الزمنية، أن نرصد أن هذا التفكير لم يكن خاصًا ب “أوغست كونت” وحده بل كان سمة التفكير للكثير من مفكري تلك الحقبة من التاريخ الغربي ، والتي تمتد ظلالها الفكرية حتى الوقت الراهن.

اضغط على الاعلان لو أعجبك

وفقا لهذا المنظور إن الأمور التي يجب أن نرجعها إلى الخالق، هي تلك الأمور التي نجهلها فقط ، وعندما نكتشفها نترك الخالق ونقيله من العمل .

وهنا يقع الإنسان في دهشة كبرى عندما يواجه هذا المنطق، وإذا أردنا أن نعبر عن ذلك بلغة أوضح؛ نجد أن هذا الأسلوب في التفكير شبيه بحالة شخص يبصر ساعة يدوية ويقول أن لها صانعًا؛ فيذهب ليبحث عن صانعها ضمن أدواتها وأجزائها المكونة لها، وعندما لا يعثر على أي أثر مادي لهذا الصانع يعود وينكر وجود ذلك الصانع.

إن الخالق كما يراه “أوغست كونت” وأمثلة من أصحاب النظرة المادية هو جزء من الطبيعة ، وعند ذلك اعتقدوا طالما أنه جزء من الطبيعة “أبو الطبيعة ” فإنهم بالعلم التجريبي القائم على الملاحظة والمشاهدة؛ سوف يكتشفونه، وحينما لم يستطيعوا ذلك أنكروا وجوده!

المراحل التاريخية الثلاث

وبالعودة إلى “أوغست كونت” ونظريته نجد أنه لا يمكن فصل نظريته السياسية عن الاجتماعية، ولا عن الظروف التي أحاطت بظهورها في النصف الأول من القرن التاسع عشر، إذ اتسمت هذه الفترة بحروب واضطرابات سياسية واجتماعية متعددة؛ من الحروب النابليونية إلى حرب القرم إلى الصراع بين الملكيين والجمهوريين وبين الليبراليين والمحافظين فضلاً عن الصراع بين العمال وأرباب العمل.

كل ذلك قاد “كونت” إلى التفكير بوضع علم للمجتمع أو “دين للإنسانية على حد زعمه، يجنبها النزاعات السياسية ويحقق لها السلام الاجتماعي، وإشارته إلى هذا واضحة في الدرس الأول من “محاضرات في الفلسفة الوضعية” إذ يقول “إن هدف الفلسفة هي إعادة تنظيم المجتمع”.

اضغط على الاعلان لو أعجبك

وحتى لا نطيل في شرح نظريته الوضعية رأينا أن نستخلص أهم محاورها حتى نشرع في عرضها على ميزاننا العقلي ونعرض ما لها وما عليها وفق القواعد المنطقية.

الدراسة الإنسانية كموضوع علم الاجتماع يدرسها “كونت” في حالتين:

الحالة الأولى:

الاستاتيكا الاجتماعية؛ وهي دراسة المجتمعات الإنسانية في حالة استقرارها في فترة معينة من تاريخها وكذلك الاجتماع الإنساني في تفاصيله وجزيئاته وفي نظمه وقواعده السياسية والقضائية والاقتصادية والأخلاقية والدينية..إلى آخره، وفي عناصرها ووظائفه بهدف الكشف عن القوانين التي تحكم التضامن بين النظم الاجتماعية).

الحالة الثانية:

الديناميكا الاجتماعية؛ في هذه الحالة تهتم السيسيولوجيا بدراسة قوانين الحركة الاجتماعية والسير الآلي للمجتمعات الإنسانية والكشف عن مدى التقدم الذي تخطوه الإنسانية في تطورها.

أي دراسة الاجتماع الإنساني برمته وانتقاله من حال إلى حال، وهذا الانتقال يقوم على أساس فكرة التطور والتقدم. كما تقوم بدراسة قوانين الحركة الاجتماعية والسير الآلي للمجتمعات الإنسانية والكشف عن مدى التقدم الذي تخطوه الإنسانية في تطورها.

وقد أرجع كونت مراحل تطور العقل البشري في المجتمعات إلي ثلاثة أدوار:
أ. الدور اللاهوتي:

يقصد فيه “كونت” أن العقل سار على أساس التفسير الديني، فقد كانت الظواهر تفسر بنسبتها إلى قوى مشخصة أبعد ما تكون عن الظاهرة نفسها كالآلهة والأرواح والشياطين.

اضغط على الاعلان لو أعجبك
ب. الدور الميتافيزيقي:

في هذا الدور نسب العقل تفسير الظواهر إلى معاني مجردة أو قوى خيالية أو علل أولى لا يمكن إثباتها كتفسير نمو النبات بقوة أرواح النبات.

ج. الدور الوضعي ـ العلمي:

الدور العلمي هو أن يذهب العقل في تفسير الظاهرة بنسبتها إلى قوانين تحكمها وأسباب مباشرة تؤثر فيها كتفسير ظاهرة النمو النباتي بالعوامل الطبيعية والكيميائية والقوانين المؤلفة لهذه الظاهرة.

ويرى “كونت” أن قانون الثلاث حالات هو نفسه القانون الذي يفسر به جميع مظاهر تطور المجتمعات الإنسانية.

بل ويطبقه أيضًا على الفنون وتطورها وعلى الحضارة والقانون والسياسة والأخلاق، كما يقول؛ لا يمكن فهم تطور كل هذه الأمور إلا إذا وقفنا على تاريخ التطور العقلي؛ لأن هذا التطور في نظره هو المحور الأساسي الذي تدور حوله مظاهر النشاط الاجتماعي.

إن تفسير الفكر البشري على هذا النحو هو أمر غير صحيح

فإذا أردنا أن نقسم مراحل الفكر البشري؛ وجب علينا أن نلاحظ تطورات آراء المفكرين والحركة الفكرية؛ لا آراء عامة الناس، وأن نجعلها مقياسا للتميز بين المراحل المختلفة حتى ولو مر بعض المفكرين بنفس التقسيم كما يدعي “كونت”، بالرغم أنه لم يتكلم على المفكرين بل تكلم على المجتمعات بما يمثلها من عامة الناس، فإن الفكر البشري الذي يمثله المفكرون في كل دورة لم يمر بمثل هذه المراحل الثلاث المزعومة.

يجب أن يذكر “أوغست كونت” ومن يمثلون تلك المدرسة الفكرية أنهم أغفلوا عمدًا أو سهوًا أن هناك أسلوب لم يذكروه وهو الأسلوب “الجامع “، ذلك المنهج أو الفكر الذي يجمع بين الأنماط الثلاثة معًا، وبعبارة أخرى فإنه يمكن أن يكون الفرد في هذا المنطق يمتلك أسلوبا فكريا إلهيا وفلسفيا وعلميا .

وفي ختام هذا الجزء؛ نلاحظ التأثير العميق للمفاهيم التي تربى عليها “أوغست كونت” ونشأ هو وغيره من العلماء ومدى الممارسات التي كانت تمارس ضد الناس في ذلك الوقت باسم الدين والذي لا يسع المقام لذكرها من محاكم تفتيش وقتل وحرق ….إلخ.

وواضح أن ردود الفعل لدي الناس والعلماء في مواجهة هذه الأساليب لا يمكن أن تكون سوى رفض الدين من أساسه، ورفض كل ما يشكل حجر الأساس فيه وهو الاعتقاد بوجد خالق مدبر حكيم عادل.

اقرأ أيضا:

الجزء الأول من المقال

نظريات علم الاجتماع على ميزان العقل

عرض ونقد النظرية العضوية

مقالات ذات صلة